في السنوات القليلة الماضية، كثّفت الأوساط النقدية هجومها على الصين. يرتكز جيل جديد من المحللين، والصحافيين، والمسؤولين الحكوميين، على فكرة مفادها أن الولايات المتحدة بدأت تخوض حرباً باردة جديدة، حيث تأخذ الصين مكان الاتحاد السوفياتي وتصبح روسيا التي تزداد ضعفاً أقرب مساعِدة لها. تُباع أعداد هائلة من الكتب والمقالات، ويتم تطوير أنظمة التسلح، وتُطرَح الحملات الدعائية على هذا الأساس.
وفي ظل توسّع الانقسامات السياسية في واشنطن، تكمن المفارقة الكبرى في إجماع الديموقراطيين والجمهوريين على نزعة الصين العدائية لتجريد الولايات المتحدة من هيمنتها العالمية.
يبدو أن عدداً من أبرز حلفاء واشنطن، لا سيما بريطانيا، بدأ يواكب هذه الموجة العدائية الجديدة تجاه الصين. من بين الطامحين إلى لعب دور معيّن في الحرب الباردة المرتقبة، يبرز اسم روبين نيبليت من مركز «تشاتام هاوس». هل يمكن اتخاذ أي خطوات لتجنب التورط في حرب باردة جديدة؟ إنه السؤال الذي يطرحه نيبليت في كتابه الجديد،The New Cold War: How the Contest Between the US and China Will Shape Our Century (الحرب الباردة الجديدة: المنافسة بين الولايات المتحدة والصين سترسم معالم هذا القرن). برأيه، لا يمكن تجنب هذه الأزمة لأن «المشكلة تتعلق بوقوف البلدَين على جهتَين معاكستَين من منافسة عالمية محتدمة ومفتوحة بين نظامَين سياسيَين غير متناغمَين يتبادلان العداء».
تتعدد الأسباب التي تشير إلى انزلاق الولايات المتحدة والصين نحو حرب باردة جديدة أو صراع أكثر خطورة، أبرزها تسارع سباق التسلّح الذي اتّضح حديثاً مع ظهور نُسَخ جديدة من الصواريخ الصينية فائقة سرعة الصوت التي تجازف بالتحوّل إلى طائرات «قاتلة» في بحر الصين الجنوبي. في السنوات الأخيرة، فاجأت صور الأقمار الاصطناعية أوساط الأمن القومي في واشنطن أيضاً، حين رصدت حشداً نووياً كبيراً وبالغ السرية من الجانب الصيني.
رداً على تلك المعلومة، أمر الرئيس جو بايدن بتحديث الترسانة النووية الأميركية عبر تطوير أول رأس حربي نووي أميركي جديد منذ أربعين سنة، بالإضافة إلى قنبلة الجاذبية النووية B61-13، و400 صاروخ باليستي أرضي وعابر للقارات، وأسطول من الغواصات الاستراتيجية المسلّحة نووياً، وقاذفة استراتيجية جديدة، وصاروخ جوال ينطلق من الجو.
على صعيد آخر، اقترب بايدن من انتهاك السياسة الأميركية القائمة على مبدأ «الغموض الاستراتيجي» أكثر من أي رئيس سابق، فهو تعهّد علناً بالدفاع عن تايوان، مع أن الجيش الصيني كثّف تهديداته وتدريباته العسكرية. تعني هذه التطورات كلها أن البلدَين قد يتجاوزان الطابع «البارد» للحرب يوماً ويخوضان صراعاً مباشراً.
عملياً، تؤكد السياسات الأميركية والغربية على اقتراب الحرب الباردة مع بكين، حتى لو كان بايدن يُعبّر دوماً عن عدم رغبته في خوض نسخة جديدة من تلك الحرب. اتّضحت هذه الرسالة بشكلٍ أساسي حين قرر حلف «الناتو» في منتصف العام 2022، أن يزيد تركيزه على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. تأكدت الصين من فرضيتها المتعلقة بإصرار واشنطن على فرض سياسة احتواء مشابهة لحقبة الحرب الباردة ضمناً حين نشأت كتل مثل «أوكوس» (اتفاق أمني ثلاثي بين أستراليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة)، والترتيب الرباعي بين اليابان، والهند، والولايات المتحدة، وأستراليا.
من الواضح أيضاً أن الصين وروسيا ستبقيان في المحور نفسه، حتى لو لم يتخذ تحالفهما طابعاً عسكرياً كاملاً بعد. سيتابع البلدان السعي إلى التصدي للهيمنة الأميركية، ولن تنفع أي محاولة لتفريقهما. رغم امتناع الصين عن تسليم أنظمة تسلّح واسعة النطاق إلى روسيا في أوكرانيا، تابع الصينيون تزويدها بالمال والمعدات والقطع.
في الوقت نفسه، بلغت التجارة بين الصين وروسيا مستوى قياسياً في العام 2023، فقد وصلت قيمتها إلى 240.1 مليار دولار، وهو ارتفاع هائل مقارنةً بأرقام السنة السابقة.
نظراً إلى وفرة التهديدات القائمة، ما الذي يمنعنا إذاً من توقّع حرب باردة وشيكة؟
حين زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الصين في أواخر نيسان، أشاد هذا الأخير بتأثير بكين البارز لمنع روسيا من التفكير باستعمال الأسلحة النووية في أوكرانيا، ودعا بكين إلى إقناع إيران بعدم تصعيد الصراع ضد إسرائيل.
تعليقاً على الموضوع، يقول مايكل دويل، خبير في العلاقات الدولية من جامعة كولومبيا: «من الضروري أن نُميّز بين أهداف الصين وروسيا في الظروف الراهنة. نحن نخوض اليوم أكثر الصراعات تطرفاً وأقربها إلى الحرب الباردة مع روسيا، حتى أنها قد تشبه الحروب بالوكالة في فيتنام وأفغانستان خلال تلك الحقبة. لكن يختلف الوضع مع الصين. استفادت الصين كثيراً من اندماجها في الاقتصاد العالمي، وهي تريد أن تلعب دوراً رائداً في هذا الاقتصاد مستقبلاً، ما يعني أنها لن تتحمّل كلفة تحطيم هذه الطموحات. إنها رؤية مضادة لتوجّهات المعسكر الصيني الذي يريد تعزيز امتيازات الصين وقوتها في شرق المحيط الهادئ».
اليوم، تتكل الولايات المتحدة على أكثر من خمسين حليفاً وشريكاً استراتيجياً حول العالم. يرتبط معظمهم بأغنى الدول، بما في ذلك 32 بلداً غنياً في حلف «الناتو». في المقابل، يشمل أبرز حلفاء الصين بلداناً مثل كوريا الشمالية التي يحتل اقتصادها المرتبة 125 في العالم، وروسيا التي تملك اقتصاداً بحجم ولاية تكساس.
نتيجةً لذلك، يقول عالِم السياسة راندال شويلر من جامعة ولاية أوهايو: «حتى نطاق النفوذ الغربي التقليدي يبدو خارج متناول بكين. البلد محاط بقوى بارزة، ويواجه اقتصاده الأعباء بسبب أسواق الرساميل العقيمة، ويحكمه زعيم لا يكف عن كبح الإصلاحات الاقتصادية وترسيخ سياساته الحكومية. توحي الظروف إذاً بأن الصين ستبقى في المرتبة الثانية في أي نظام ثنائي غير متوازن».
في عهد بايدن، توترت العلاقات الأميركية - الصينية بدرجة كبيرة، بدءاً من ألاسكا في العام 2021 وصولاً إلى الإطلالة الضعيفة التي قام بها الرئيس الصيني شي جينبينغ في سان فرانسيسكو خلال منتدى التعاون لآسيا والمحيط الهادئ في أواخر العام 2023، حين توسّل الزعيم الصيني مستثمري التكنولوجيا الأميركيين ودعاهم للعودة إلى الصين. في هذا السياق، يكتب الصحافي ديفيد سانغر: «كان قرار الرئيس الصيني بالتخلي عن سياسة «الذئب المحارب» واستمالة المستثمرين الأميركيين لإقناعهم بالعودة إلى الصين المناسبة الأولى التي يظهر فيها زعيم صيني منذ عقود وهو يدخل اجتماعاً بارزاً ويعرف أنه في موقف ضعيف. لقد بدا حينها بأمسّ الحاجة إلى المساعدة الأميركية».
في السنة الماضية، بدأت بكين تُلمِح أيضاً إلى عدم رغبتها في غزو تايوان في أي وقت قريب، نظراً إلى مخاطر التعرّض لعقوبات اقتصادية إضافية، فيما يقتصر نمو الاقتصاد الصيني على 2 في المئة أو 3 في المئة سنوياً، بدل بلوغ عتبة 8 في المئة. برأي سانغر، يتساءل شي على الأرجح عن نزعة جنرالاته إلى المبالغة في تقدير مهارات جيش التحرير الشعبي، مثلما توقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خوض حرب قصيرة في أوكرانيا. هو يقتبس كلام أحد المسؤولين في فريق بايدن حين افترض أن الوقت لا يزال مبكراً على خوض صراع كبير.
في الوقت نفسه، بدت الصين في عهد شي أكثر استعداداً للتفاوض في شأن السيطرة على الأسلحة في السنة الماضية. يكتب سانغر: «فجأةً، بدا الصينيون مهتمين بإقامة شكل من الحوار. ربما يتعلّق السبب بعدم رغبتهم في خوض سباق تسلّح مكلف لأن التحالف العسكري الوثيق بين واشنطن وطوكيو منح الولايات المتحدة قدرات مضادة جديدة».
قد يدفع عامل آخر الصين إلى استرجاع شكلٍ ضروري من الواقعية السياسية: لم يتخلَّ بايدن عن خطابه المرتبط بجوهر الحرب الباردة، أي الفكرة القائلة إننا نعيش في عالمٍ مؤلف من كتلتين حيث تحتدم المواجهة بين الديموقراطيات والأنظمة الاستبدادية. مع عودة احتمال فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية مجدداً في تشرين الثاني المقبل، من الواضح أننا نخوض اليوم مواجهة أكثر تطرفاً محورها أفكار وممارسات سياسية تتراوح بين الديموقراطيات الليبرالية الغربية والاستبداد الروسي والصيني، لكن تتخللها هذه المرة مجموعة كبيرة من الأنظمة المختلطة مثل الهند، والمجر، والبرازيل.
وبما أن صدقية الديموقراطية الأميركية أصبحت على المحك راهناً، من الأفضل أن يعترف جميع المعنيين بأن أياً من النظامَين ليس مثالياً، ما قد يُسهّل التوصل إلى تسوية موَقتة. يمقت الصينيون الديموقراطية ويكره الأميركيون الاستبداد، لكننا نتحمّل اليوم إخفاقات الديموقراطية مثلما يتعامل شي وأتباعه مع شوائب الاستبداد.
يوضح سانغر في كتابه،New Cold Wars: China’s Rise, Russia’s Invasion, and America’s Struggle to Defend the West (حروب باردة جديدة: صعود الصين، والغزو الروسي، والنضال الأميركي للدفاع عن الغرب)، أن الصين لا تزال عالقة في تكتيكات الحرب الباردة، بما في ذلك إغراق البنى التحتية الأميركية بالبرامج الخبيثة لاختبار كيفية إبطاء الرد الأميركي على أي غزو محتمل لتايوان. يُفترض أن نستخلص مقارنة واحدة على الأقل مع الحرب الباردة الأولى: لا يستطيع أي طرف من الصراع أن يفوّت فرصة استمرار هذا السلام البارد بدل التعثر والانجرار بكل بساطة إلى حرب باردة جديدة.
في النهاية، يقول مايكل دويل من جامعة كولومبيا: «ثمة نقاط تشابه معيّنة مع أحداث أواخر الأربعينات، حين كانت طبيعة التهديدات التي يطرحها جوزيف ستالين والاتحاد السوفياتي غير واضحة نسبياً. أظن أننا نعيش في عالم مماثل اليوم. ثمة تحذيرات مشروعة من طبيعة المنافسة القائمة مع روسيا والصين. لكن يجب أن نتعلّم مجدداً الدروس المرتبطة بانفراج الوضع تزامناً مع استخلاص الدروس من الحرب الباردة. تستدعي الظروف الراهنة اختيار الانفراج بدل انتظار عشرين سنة أخرى».