لم يطبَّق إتّفاق الطّائف لا نصًّا ولا روحًّا. خَضَع لِشَيطنة معنويَّة تبنَّاها مِحوَر حلف الأقليَّات، واستأصلت إصلاحاتِه البنيويَّة منهجيَّة تشويهٍ سياسيَّة. تقاطَعَ في الشَّيطنة والتَّشويه ديناصورات المنظومة الحاكِمَة مع غطاءٍ إقليميّ-دوليّ خبيث. مأزقُ الاتّفاق صِدقُه العميق في تثبيت فرادَة النَّموذج الحضاريّ اللُّبناني باحتضان التنوُّع ضمن مواطنة الدَّولة المدنيَّة. لم يرُق هذا النَّموذج الحضاريّ في الديموقراطيَّة البرلمانيَّة، لم يرُق منذ قِيامِه للعنة الجغرافيا. عارَضهُ منتمون إلى ديكتاتوريَّاتٍ دينيَّة وعلمانيَّة على حدِّ سواء. تربَّص به مرضى شَبَقِ السُّلطَة. إستغلَّهُ زورًا من اقتنصُوا وصايَةً ولاَّها عليهم فيها أزلام. حَاَول بعضُ الأَحرَار إنقاذَ بعضٍ من حقيقَتِه، فكان نصيبُهم، حين انتِفاضةٍ طوعيَّة بعد تطبيع قسريّ، اغتِيالاتٍ معنويَّة وجسديَّة.
إتّفاق الطّائف، ومن يقرأُ عُمقَه الوطنيّ ليُطِلّ من ثّمَّ على ترجمتِه الدُّستوريَّة، يكتشِفُ كم هي أسطورَةُ تسخيفه بموضعته في مربَّع "وقفِ إطلاق نارٍ"، أو في موقع حجب وزيادة صلاحيَّات، يكتشِفُ كم هي تضليليَّة. حَمَل الاتِّفاقُ في جيناتِه مبادئ مؤسِّسة مُستَلهَمَة من معنى لبنان الكيان، وطُمُوح لبنان الدَّولة.
يكفي في هذا السِّياق استِعراضُ ما ورَد فيه من موجِبِ حلِّ كلِّ الميليشيات اللُّبنانيَّة وغير اللُّبنانيَّة، وإنشاءِ الهيئة الوطنيَّة لإلغاءِ الطَّائفيَّة (المادة 95)، وتحقيق اللَّامركزيَّة الإداريَّة الموسَّعة، وبَلوَرة قانونٍ انتِخابيّ خارج القيد الطَّائفي، وقِيام مجلس شيوخ يُحاكي هواجِس العائِلات الرُّوحيَّة، ووضع تفسير الدُّستور في عُهدَة المجلس الدُّستوري، وتعزيز استِقلاليَّة السُّلطة القضائيَّة، وإقرار قانون مدني اختياري موحَّد للأَحوَال الشَّخصيَّة، وتبنِّي الحياد بالميثاق الوطنيّ، وتمتين العيش المُشتَرك بصيغة المواطنة، يكفي هذا الاستِعراض الذي بقِي حِبرًا على وَرَق لِنَفهَم كيف تمَّ الانقِلابُ على حُكمِ دَولَة القانون والدُّستور، والاستِعاضة عن هذا الحُكم بسُلُوكيَّاتٍ ميليشياويَّة مافيويَّة تَنهَبُ البِلاد والعِبَاد. أُضيفُ من ثمَّ إلى هذه السُّلوكيَّات، إنتِماءَاتٌ عابِرَةٌ للحُدُود قَتَلَت فِكرَة المواطنة في مَهدِهَا، وحَرَقَت التوافُقيَّة بجرائم الڤيتوقراطيَّة.
جِهازُ الدِّعايّة الحاكِم سوَّق لحقوق الطَّوائف، وقُوَّة الزَّعامات، وحصريَّة التَّمثيل، وتجويف المؤسَّسات، وازدواجيَّة السِّياسة الخارجيَّة، والإشراك في السِّياسة الدِّفاعيَّة، وفُقاعَةِ فوائِد الودائع، وتقزيم القضاء، سوَّق لهذه كُلِّها إلى حدِّ ثمالَة النَّجاسّة، لِينطَلِق من ثَمَّ بالحديثِ عن أزمَةِ نِظام، وفَشَلِ صيغة، وترهُّل ميثاق.
جِهازُ الدِّعايَة الحاكِم محترِفُ جريمة مُنظَّمة، ومواجهتُه تقتضي تصويبًا لمفاهيم إتّفاق الطّائف، وتصويبًا لمساراتِ العَمَل السِّياسي بتوسيع رُقعَة تحالُفات القِوى السِّياديَّة الإصلاحيَّة، مع تشكيلِ نواةِ قِيادَةٍ تشارُكيَّة، تحت سقفِ الدُّستور، والقرارات الدَّوليَّة والعربيَّة ذات الصِّلة.
إتّفاق الطّائف لم يُطبَّق لا نصًّا ولا روحًا. حلفٌ موضوعيّ يجمَعُ اليَوم بين الحاقِدين عليه من جِهة، والباحِثين عن صِيَغٍ مُرَكَّبَة نَبيلَةِ السِّمات، لكنَّها تقتاتُ من حِقدٍ موازٍ، من جِهة أخرى. نجِّنا يا ربُّ من الأشرار.
*المدير التنفيذي لـ "ملتقى التأثير المدني"