في رسمه لملامح مرحلة ما بعد الحرب أعلن أمين عام "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم أن خطوات حزبه السياسية وكل ما يتعلق بشؤون الدولة ستتم تحت سقف اتفاق الطائف، إنما من دون أن يتخلى عن معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" التي اعتبرها بمثابة "الرصيد المتبقي الذي نستطيع من خلاله أن نبني وطننا". إزاء هذا المستجد يصبح التساؤل لازماً: فهل نحن بصدد سياسة جديدة لـ"حزب الله" قوامها التنازل لصالح الدولة والوطن؟ وهل لتلك الثلاثية التي يرفضها الكثيرون في لبنان علاقة بوثيقة الوفاق الوطني؟
يعتبر اتفاق الطائف من قبيل الاتفاقات ما بعد الحروب، وهذا الصنف من الالتزامات يعتبر شديد الحساسية لكونه قد وضع حداً لحرب دامت اكثر من 15 سنة، وأدخل المليشيات المتحاربة الى كنف الدولة، بحيث يجعل من تطبيق هذا الاتفاق بمثابة ضمانة سياسية ميثاقية لجميع المكونات اللبنانية. فدستور الطائف يصون التنوع في لبنان، ولا يغبن في جوهره أي مكوّن من مكونات المجتمع، وهو تسوية احترمت الأعراف القائمة وفتحت الافق لبناء دولة المواطنة والقانون، لذا فهو يبدأ من الدولة وينتهي بالدولة.
إن هذا الاتفاق قد وجد لكي يطبق، فقرة تأخذ برتبة فقرة، باعتباره كلّ لا يتجزأ، بحيث لا يمكن تطبيق ما يُناسب منه، وترك ما لا يُناسب، ومناط تطبيقه يتطلب حسن نية مشفوعاً بإحساس غير مسبوق بالمسؤولية الوطنية وتقديم المصالح العليا على ما عداها، ومن أهم الدلائل على أهمية وثيقة الوفاق الوطني هي اشتداد حضورها وراهنيتها عند كل ازمة يتعرض لها هذا الوطن الصغير. فهي المدخل الرئيس الذي لا يمكن تجاوزه عند كل خطر أو استحقاق.
والجوهر السياسي لاتفاق الطائف يقوم على ركائز ثلاث، تشكل مجتمعة هرم بناء الدولة في لبنان، وهي تحمل الدلالة ذاتها، ولا تختلف عن بعضها على سلم الاولويات، فسواء قرأت وفق سياق الهرم الجالس أم المقلوب، تبقى واحدة في المضمون والمعنى والسياق.
وهذه الركائز هي: مبدأ المناصفة، هوية لبنان العربية، واحترام القرارات الدولية.
أما مبدأ المناصفة فيتعلق بالصيغة اللبنانية مباشرة أي علاقات الداخل وتفاعلاتها في إطار تكوين السلطة وحفظ تمثيل المكونات فيها، وهذا المبدأ ينبذ التفوق العددي ويجعل من عنصر الديمغرافية في حالة سكون آني ومستقبلي، وهذا ما اختصره الرئيس الراحل رفيق احريري بقوله " لقد اوقفنا العد" أي أن الركون الى مبدأ المناصفة أصبح ثابتاً غير قابل للنزاع او التفاوض، وأن أي متغير سواء في العدد او القوة والتفوق لدى اي طائفة من الطوائف اللبنانية لا يمكن أن يصرف عند تكوين السلطات التشريعية او التنفيذية. فالحكومة تؤلف مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، الامر نفسه ينطبق على البرلمان، وعلى موظفي الفئة الاولى فقط دون سائر الفئات الادنى في الادارة العامة لا يسري عليها هذا المبدأ.
اما الركيزة الثانية فهي هوية لبنان العربية، لقد كانت مسألة الحسم في هوية لبنان القومية عنصراً من عناصر الحرب الاهلية اللبنانية، فعبارة لبنان ذو وجه عربي ظلّت تثير حفيظة ومخاوف فريق من اللبنايين، وقد انقسم حولها الكثيرون، بين قائل إن هذه العبارة لا تنفي عروبة لبنان، بما أنه عضو فاعل ومؤسس في جامعة الدول العربية، ولم يكن يوماً الا ويعبر عن ذلك بمواقفه السياسية إن تجاه القضية الفلسطينية او تجاه باقي القضايا العربية التي كانت يدافع عنها في المحافل الدولية على مختلف مستوياتها، في حين فقد اعتبر فريق أخر أن تلك العبارة حمّالة أوجه، لا تحسم في انتماء لبنان القومي، لذا بد من إعادة صياغة المفهوم وتنقيته ليعبر لفظاً ومعنى ودون تأويل عن عروبة لبنان، فجاء اتفاق الطائف ليقدم في هذا الجدال حسماً نهائياً لا يحتمل المداراة بتأكيده على أن لبنان عربي الهوية والانتماء، منهياً عقوداً من الخلاف هول هذه المسألة.
كذلك فقد أكدت وثيقة الوفاق الوطني على أن لبنان "عضو مؤسس وعامل في الامم المتحدة وملتزم بميثاقها" ما يعني أن سياسة لبنان الخارجية لا يمكن إلا وأن تأخذ في الاعتبار احترام قرارات الشرعية الدولية وتعمل على تطبيق التزاماتها بها بحسن نية كما هو مطلوب.
في الخلاصة لقد تم تحديد البنية المفاهيمية والقيمية للسياسة اللبنانية من خلال هذه الركائز الثلاث، إن داخلياً عبر مبدأ المناصفة، أو عربياً بحسم هوية لبنان العربية، او دولياً من خلال التأكيد على احترام الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، لكون لبنان العضو المؤسس في اهم منطمة دولية تعمل لتكريس السلم والامن الدوليين والتفاعل السلمي بين شعوب المعمورة.
الطائف وثلاثية جيش، شعب، ومقاومة
بعد هذه القراءة الموجزة في أهم مضامين اتفاق الطائف، والتي تفتح الطريق لمناقشة ثلاثية جيش وشعب ومقاومة من خلال بنود الطائف التي نصت على بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها كما وأكدت على حل جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية تمهيدا لحصر السلاح بيد الشرعية، وعلى ان مهمة القوات المسلحة الدفاع عن الوطن وتلك التي نصت ايضا على تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي.
لا خلاف على أن مقاومة المحتل وحق تقرير المصير من القضايا التي تحوّلت الى مسلمات يقرّها القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة ليس ببعدها السياسي بل الانساني والبشري بما هو حق غير قابل للتجزئة او للتخلي عنه، لارتباطه المباشر بحقوق الانسان خصوصاً الحق بالحياة، فكل دولة تخضع للاحتلال يُعطى شعبها الحق في مقاومة المحتل خدمة لها ولشعبها.
وحق المقاومة كي يؤتي ثماره يجب أن يعبر عن إرادة الدولة، لا قهراً لها، ولا يجب أن يخرج عن سيادتها، ، فاستقلالية قرار المقاومة هو أقصر الطرق للتحرير، فلا تبعية ولا ارتهان. فالمقاومة واجب وطني يأبى أن يتحول ملكاً لطائفة أو حزب.
وبالعودة الى بنود اتفاق الطائف فقد ذكرت الفقرة دال نصاً صريحاً على أن "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية".
أما بالنسبة لفقرة بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الاراضي اللبنانية، فقد دعت صراحة الى تعزيز القوات المسلحة باعتبار أن "المهمة الاساسية للقوات المسلحة هي الدفاع عن الوطن وعند الضرورة حماية النظام العام".
كذلك في بند تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي اكدت وثيقة الطائف على أن استعادة سلطة الدولة حتى الحدود المعترف بها دولياً تتطلب العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر القرارات الدولية القاضية بإزالة الاحتلال الاسرائيلي إزالة شاملة. التمسك باتفاقية الهدنة لعام 1949.
وتعتبر فقرة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الاراضي من الاحتلال الاسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، من أخطر وأهم الفقرات التي وردت في نص الوثيقة، لكونها تتعلق بتحرير الاراضي المحتلة، انما يجب أن تقرأ على أنها إجراءات دولتية لا يمكن فهمها من دون ربطها بما سبق أي التمسك بالقرارات الدولية لا سيما اتفاقية الهدنة نشر الجيش في المنطقة الحدودية والعمل على تدعيم وجود قوات الطواريء في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الاسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الامن والاستقرار الى منطقة الحدود.
لقد حرر لبنان أرضه بفعل المقاومة اللبنانية بمختلف مشاربها، ولم يتبقَ سوى مزارع شبعا وبعض الاراضي الملاصقة لها، وهي ارض، لا شك، لبنانية، انما تحريرها يجب أن تسبقه خطوات مهمة ولازمة أهمها ما يتعلق بالجانب السوري الذي يحتم عليه تقديم كافة المستندات لمساعدتنا في اثبات لبنانيتها لتصبح خاضعة للقرار 425 كون القرار 242 قد أدرج جغرافية المزارع ضمن الاراضي السورية، ما يعني أن الامم المتحدة لا تزال ترفض الاعتراف بلبنانية تلك المزارع مشترطة اجراء الترسيم بين لبنان وسوريا لكي تدخلها في الزامات القرار 425.
في هذا الوقت الخطير، ونحن نختبر مرحلة حرجة من تاريخنا السياسي، بعد عدوان اسرائيلي شرس على لبنان، ثبت بما هو غير قابل للنقاش أن العودة الى نصوص اتفاق الطائف بغية تطبيقها والالتزام بها مسألة ضرورية وبوابة الزامية للعبور نحو الدولة القوية والقادرة التي تعي مقولة العلامة "إهرنغ" " إن انعدام القوة المادية يعتبر خطيئة الدولة الاساسية التي لا تغتفر. إن دولة بدون قوة مادية للإكراه هي عبارة عن تناقض ذاتي".
بناءً على ما تقدم ، نجد أن عبارتي الشعب والجيش قد تم ذكرهما نصاً في وثيقة اتفاق الطائف، بينما عبارة "المقاومة" على أهميتها لتحرير الارض، قد تم تأويلها لأغراض سياسية غالباً ما تقدم مصالح الخارج على مصالح الداخل اللبناني.