ريتا عازار

من طاولة القمار إلى غمار الفن

هكذا أنشأ ديفيد والش المتحف الأكثر جنوناً في العالم

في أقصى جنوب العالم، على جزيرة تسمانيا الأسترالية الهادئة، ثمّة مكان ينافس جنون نيويورك وعبقرية باريس، إنه متحف الفنون القديمة والجديدة (MONA)، الذي يُعرف بأنه "أكثر المتاحف جنوناً في العالم". وُلد هذا المتحف المذهل من رهانات جريئة. فمؤسسه، ديفيد والش، لم يكن مجرّد ملياردير عادي، بل هو مقامر محترف صنع ثروته من ألعاب الكازينو والمراهنات الرياضية، ليحوّل أرباحه إلى حلم فني متمرّد.

بروحه المغامرة، جمع والش بين شغفه بالمقامرة وحلمه بإنشاء مكان يثير التساؤلات الكبرى عن الحياة، ليصبح "MONA" وجهة تجمع بين الفن والجرأة والابتكار!


على ضفاف نهر ديروينت في هوبارت، عاصمة ولاية تسمانيا الأسترالية، بُني المتحف التحفة. افتُتح عام 2011 وأصبح بسرعة واحدة من الوجهات الثقافية الأكثر شهرة في العالم. مؤسسه ديفيد والش، رجل الأعمال والمقامر السابق أنشأه ليكون بمثابة "ديزني لاند للكبار". يتميّز المتحف بمزيجه المدهش بين القطع الأثرية القديمة والأعمال الفنية المعاصرة المثيرة للجدل، مما يُحرك في فكر زواره تساؤلات عميقة حول الحياة والوجود.



مزج القديم بالحديث

لا يعرض المتحف الأعمال الفنية الجميلة فقط، بل يتحدّى الزوار بمعارض تتناول مواضيع حساسة مثل الجنس، الموت والسياسة. إنه مكان يثير الفكر ويشجع الحوار. مبناه مدفون جزئياً داخل منحدر صخري، ما يمنح الزوار إحساساً بالاكتشاف. يدخلون إلى قاعات تحت الأرض عبر درج حلزوني، ومن هناك تنطلق الرحلة الفنية. يعرض المتحف مزيجاً غير مألوف من التحف القديمة مثل المومياءات المصرية وأعمال فنية حديثة صادمة، ما يخلق تجربة فريدة لا مثيل لها. يتلقى كل زائر جهازاً يُسمى "The O"، إنه بديل لوحات التعريف التقليدية. يوفّر الجهاز معلومات عن الأعمال الفنية ويسمح للزوار بتسجيل ردود أفعالهم، فتعزّز التجربة التفاعلية. وفي جعبة المتحف فعاليات شهيرة منها "Dark Mofo"، وهو مهرجان يحتفل بالانقلاب الشتوي بعروض فنية وموسيقية غامرة.



المبدع المقامر وراء المتحف

ديفيد والش (63 عاماً)، وُلد في هوبارت، من عائلة متواضعة وبرز منذ صغره كعبقري في الرياضيات. ترك الجامعة مبكّراً ليصبح مقامراً محترفاً، فضّل استخدام مهاراته الإحصائيّة لبناء ثروة كبيرة من المراهنات الرياضية. نعم جمع والش ثروته الضخمة من أرباح المقامرة، ممّا مكّنه من تمويل بناء "MONA"، الذي يُعتبر واحداً من أغلى المتاحف الخاصة في العالم، بميزانية تقدّر بملايين الدولارات.



هكذا قرر والش أن يستثمر ثروته في شغفه بالفن، ليؤسس "MONA" كمكان يُعيد تعريف معنى المتحف.


رؤية والش لا تقتصر على عرض الفن فقط، بل تتعداه إلى خلق تجربة شاملة. وصف المتحف بأنه "كازينو للفن"، حيث يُشجع الزوار على التفكير، التساؤل، وحتى الشعور بعدم الراحة. وعلى الرغم من شخصيته الجريئة، فإن والش يُعرف بجانبه الإنساني، حيث جعل الدخول إلى المتحف مجانياً أو بتكلفة رمزية لسكان تسمانيا. والمقامرة ليست مجرد وسيلة لتمويل المتحف، بل تُعبر عن فلسفة والش في الحياة والفن. يرى أنّ المقامرة تحمل عناصر المخاطرة، الغموض والمفاجأة، وهي الأسس نفسها التي تعكسها تجربة زيارة المتحف. لكن وعلى الرغم من ارتباط ثروته بالمقامرة، فإن والش لا يروّج لها أو يشجّع عليها داخل المتحف. بالعكس، يُركّز على الفن كتجربة إنسانية تُثير التساؤلات حول قضايا أعمق في الحياة.


وهكذا، نجح ديفيد والش في تحويل أرباحه من ألعاب الحظ إلى أكثر تجربة فنية جنوناً في العالم. ربما كان بإمكانه إنفاق ثروته على يخت فاخر أو جزيرة خاصة، لكنه اختار أن يبني متحفاً حيث تُعرَض أعمال فنية قد تُغنيك عن أي جرعة كافيين صباحية!


هيّا إذا كنت تبحث عن تجربة لا تُنسى، حيث يمكن لآلة أن "تتناول الغداء" بدلاً منك، ولفن معاصر أن يجعلك تعيد التفكير في كل شيء، فلا تبحث بعيداً. أحجز تذكرتك إلى تسمانيا وكن واحداً من ملايين الزوار الذين يتوافدون من جميع أنحاء العالم إليه، وادخل عالم "MONA" حيث تكون المغامرة دائماً على الطاولة، إنما هذه المرة، ستكون أنت الرهان!



أبرز الأعمال الجريئة في المتحف


آلة الهضم: إنها عملٌ للفنان ويم ديلفوي يحاكي عملية الهضم البشري بالكامل، وينتج فضلات حقيقية. هذا العمل يثير التساؤلات حول الاستهلاك والطبيعة البشرية.


الوشم الحي: وشم دائم على ظهر رجل يُعرض كعمل فنّي حي، وسيُحتفظ بجلدته بعد وفاته. يناقش هذا العمل قضايا الهوية والجسد.


الكرسي الجميل: تركيب فنّي يعرض كرسياً مريحاً بجانب عداد تنازلي، ما يدعو الزوار للتفكير في الزمن والموت.


فن الجنس: قسم يحتوي على أعمال فنّية تتناول موضوعات مثل الحب والجنس بجرأة فنية تستفز المشاعر.


غرفة نبض القلب: إنها تتفاعل مع نبضات قلب الزوار، حيث تُضاء المصابيح وفقاً لإيقاع قلوبهم، ما يثير التأمل في الحياة والفناء.