رغم العلاقات التاريخية والجغرافية وعلاقات النسب بين لبنان وسوريا فإنّ غالبية اللبنانيين لا سيّما الأجيال الجديدة منهم وممّن بلغوا الرابعة والخمسين من عمرهم لم يتعرفوا إلى الشعب السوري وإنّما كوّنوا صوراً نمطية عن السوريين من خلال الأوصياء المحتلّين، من خلال غازي كنعان ورستم غزالة والنبي يوسف وجامع جامع ومحمد خلوف الذين كانوا يعيّنون رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والنواب والوزراء ويصوغون البيانات الوزارية والتعديلات الدستورية والقوانين تبعاً لأهوائهم ومصالحهم وديمومة احتلالهم، لقد كوّن اللبنانيون صوراً نمطية عن الشعب السوري من خلال الحواجز العسكرية وضباط المخابرات وأقبية التعذيب في عنجر والبوريفاج وشتّى المراكز الأمنية في أرجاء القرى والمدن اللبنانية حيث ذاقت كل منطقة ما يناسبها من إذلال وقمع وخطف وقتل تبعاً للانتماءات السياسية لأهلها، وبعد انسحاب الجيش السوري الذي غادر جنوده محمّلين بالأبواب والنوافذ وعفش البيوت المنهوبة وغادر ضباطه محمّلين بالسيارات الجديدة والساعات الثمينة والمغامرات مع نساء السياسيين الملحقين بهم والهدايا التي أغدقها عليهم الساعون من أهل السياسة عندنا ومن مختلف الطوائف سعياً وراء وجاهة أو سلطة أو كرسي أو رئاسة أو الانتقام من خصم سياسي، غادروا لبنان تاركين وراءهم كتابات وشعارات على الجدران كلها تمجد الطاغية وعائلته والأمة ذات الرسالة الخالدة.
وهكذا استمرّت صعوبة الفصل بين نظام بيت الأسد الإجرامي وبين الشعب السوري عند معظم اللبنانيين علماً أنّ المجتمع السوري بمناضليه المدنيين ومثقفيه وأدبائه وصحافييه وفنانيه ونخبه الفكرية ومنتدياته الثقافية وتركيبته الاجتماعية شديد الشبه بالمجتمع اللبناني.
وقد غاب عن بال العديد من اللبنانيين أنّ الشعبين اللبناني والسوري هما ضحايا هذا النظام الاستبدادي المتوحّش، فاللبناني البالغ اليوم الرابعة والخمسين من عمره يحمل ذاكرة مثقلة بحوادث القتل والخطف والاغتيالات والتعذيب والقمع وبجنازات نخبه الفكرية والسياسية، ولم يتعرّف اللبناني إلى ضحايا النظام الإجرامي في سوريا إلّا عندما هرب الديكتاتور وتبدّل المشهد السياسي، فالناس في سوريا كما في لبنان كأنهم قد استفاقوا من حلم غير مصدّقين هذا الانهيار السريع للديكتاتور وعسكره ومخابراته بعد أربعة وخمسين عاماً من الخوف والتسلّط.
هرب الديكتاتور وتفتّحت العيون على المسلخ البشري في صيدنايا فشاهد اللبناني كما العالم بأسره المكبس والمطحنة والمنشرة والمحرقة وبرميل الأسيد وأوكار التعذيب، تفتّحت العيون على السجون المركزية والسرية، على سوريا هذا السجن الكبير والمقبرة الجماعية الكبيرة ومصانع حبوب الهلوسة على امتداد الجغرافيا السورية، تفتّحت العيون على هذا التفنن في خداع طرق التعذيب السادي وإلّا ما معنى الاحتفاظ بمعتقلين لمدة أربعين سنة سوى التشفي والتلذذ السادي بالتعذيب. إنّه لمشهد مفجع وحزين يستسقي البكاء والوجع والصراخ والغضب إذ لم يقرأ أحد في كتب التاريخ قديمها وحديثها عن مثل هذا التوحش البشري وهذا الإجرام المنظم والمبرمج وهذا الإيذاء النفسي والجسدي المتعمّد، لقد تفوّق بيت الأسد الأب والابن والشقيق على هتلر وموسوليني وفرنكو وماركوس ونيرون ونتنياهو وسليماني في سحل العيون وسرقة وتدمير كل ما هو إنساني، لقد تفوقوا على أعتى طغاة التاريخ وأبطال أفلام الرعب والخيال العلمي في التعذيب ومصادرة الناس والمدن والقرى بساحاتها ومبانيها ومؤسساتها، فرفعوا عند كل زاوية وفي كل ساحة تمثالاً وصوراً للأب والابن وكأنّ البلاد ملك خاص ولطالما ردّدوا "سوريا الأسد إلى الأبد" غير مكتفين بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وتشتيت السوريين في كل أنحاء الأرض وفي مخيمات الفقر والذل.
وإلى جانب المشهد الموجع والمفجع، تفتّحت العيون على طوفان من الغبطة والفرح احتفاءً بسقوط الطاغية فازدحمت الشوارع والساحات بالمبعدين قسراً وبالقادمين من كل الجهات يرفعون شارات النصر وأعلام الثورة ويشطبون شعارات تمجيد الأب والابن وكأنّ السوريين يتعرّفون وللمرة الأولى ومنذ خمسة عقود إلى بعضهم ويتعرفون على مدنهم وساحاتهم وحاراتهم، ونحن الذين كنا نحفظ عن ظهر قلب أسماء السجون والفروع الأمنية أخذنا نتهجأ من جديد حمص وحماه وحلب ودمشق. ولعّل أجمل ما في هذا المشهد الجديد هو انتهاك الكبار والصغار المعتقلات والقصور وقبور الطغاة وتماثيلهم وخصوصيات الديكتاتور فدخلنا مع الداخلين إلى غرف نوم الطاغية، إلى المطابخ وخزائن ملابس الديكتاتورة الصغيرة ومطابخها وإلى كل ما هو حميم وعبثنا معهم بألبومات العائلة عارضين الطغاة عراة وقد زاد الداخلون على عريهم عرياً فضائحياً، فقصر الشعب لم يكن يوماً للشعب السوري فالطاغية ومخابراته وحرسه يقيمون في ظلام وصقيع القصر والشعب يقيم في أقبية صيدنايا والمزة وفرع فلسطين تحت الأرض وفي حفريات المقابر الجماعية.
لقد أحسسنا كلبنانيين وللمرة الأولى أنّنا شركاء في الوجع وفي الانتصار على الطغاة مسقطين خطاب العداء والاستعلاء والكراهية، فتشاركنا دموع مازن الحمادة وأهازيج القاشوش والساروت. نحن مهزومون بأحلامنا ومنهوبون على أيدي حكامنا وحالمون بحياة يومية هادئة متخذين خيار الدنيا بتفاصيلها الرقيقة وتفضيلها على الآخرة في حضرة من يدعونا ليل نهار إلى الموت في تمجيد وتقديس فج للعنف إذ لا يطل علينا إلّا بإصبع مرفوعة في وجهنا أو من فوهة بندقية أو من خلال جنازة أو ذكرى من استشهد في سبيل شعارات وهمية معلّبة وفاقدة الصلاحية.
إنّ سقوط ذرية الأسد إلى غير رجعة اعتبرناه إيذاناً بسقوط المتسلطين على مصائرنا وحياتنا ومستقبل أولادنا منذ عقود، لقد انكسرت"الفقاعة" التي سُجن فيها اللبنانيون والسوريون طيلة خمسة عقود. صحيح أنّنا قد انوجعنا وفرحنا مع الحشود في ساحة الأمويين مستعيدين ربيع بيروت في الرابع عشر من آذار وأطياف من سقطوا على أيدي الغدر البعثي وامتداداته، فنظام الجواسيس الذين كانوا يراقبون الأولاد في بطون أمهاتهم قد سقط، ولكن فرحنا بهذا السقوط يخفي قلقاً وخوفاً على ربيع دمشق من أن يتحول إلى خريف وصقيع إذا تقسّمت سوريا أو تحوّلت إلى دولة أكثريات وأقليات دينية أحادية تلغي التعدد والتنوع وحق وحرية الاختلاف، فرحنا المشترك بسقوط أنظمة الطغيان يخفي خوفاً من أن يتمّ الاستئثار بالسلطة ومن أن تعود عبادة القائد الزعيم الفرد.
ولكن مهما تبدّلت الأحوال فلتهنأ سوريا الجديدة بألف ممدودة في عين الطاغية نحو الفضاء الواسع والحرية إذ برهنت الثورة السورية أن ما من طغيان يدوم إلى "الأبد".
"إنّ ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنّما يعلن أوان الورد في دمشق". لو لم ترحل يا سمير قصير فقد انعكست الآية في غيابك إذ إنّ ربيع العرب قد أزهر في دمشق ولا بدّ له أن يعلن أوان الورد في بيروت.