د. عادل مشموشي

الانتخاباتُ الرئاسيَّةُ ما بين المواقِفِ المُعلنَةِ والأرانبِ المَخفيَّة

خلافاً لكل التَّوقعات التَّشاؤميَةِ التي يُطلقها المُحلِّلون السِّياسيون في إطلالاتهم ومنشوراتهم والتي يخلُصون فيها إلى أن الجلسةَ الانتخابيَّةَ المُقرَّرةَ بتاريخ التَّاسعِ من كانون الثاني القادِم لن تُفضي إلى انتخابِ رئيس للجُمهوريَّة وقد بنوا مواقفهم قياساً على ما سبقها من مُحاولاتٍ فاشِلَة، نرى على خلافِ الرأي السَّائدِ أن الجلسةَ ستنتهي بانتخابِ رئيسٍ للجمهوريَّة، ونبني رأينا هذا على قراءتِنا للمُستجداتِ التي شهدتها منطقةُ الشَّرق الأوسطِ ولبنان على وجه التَّحديد خلال الأشهرِ الأخيرةِ من العام الحالي، التي بدَّلت المُعطياتِ وقلبت التَّوازناتِ التي كانت قائمَةً رأساً على عقب، الأمر الذي حدَّ من هامشِ المُناورةِ لدى المَعنيين في الإستحقاق الرِّئاسي، ولم تعُد تُجدي نفعاً كُلُّ المُحاولاتِ التَّعطيليَّةِ التي كان المُعطلون يتلطون خلفها للإتيان برئيسٍ طيِّعٍ خدمةً لمصالِحِهم الشَّخصيَّةِ ولتوجُّهاتهم الفئويَّة.



ليست المَرَّةُ الأولى التي يتمُّ فيها تعطيلُ استحقاقٍ وطني أساسي في الحياة السِّياسيَّةِ اللبنانيَّة ولا شَلُّ إحدى المؤسَّساتِ الدُّستوريَّة، إلى حدٍّ يدعونا للقَولِ إن السِّياساتِ التَّعطيليَّةَ أضحت عادةً مألوفةً ينتهجُها بعضُ المسؤولينَ كمناورَةٍ لابتزازِ الأطرافِ الأخرى لتَحقيقِ مآربهم السيَاسيَّةِ وطُموحاتِهِم الخاصَّة، وكانت أحياناً تنتهي بتحقيق المَطالب، وأحياناً أخرى بتَفجُّرِ أزماتٍ حادَّةٍ تَطلَّبَ حلُّها تدخُّلاتٍ خارجيَّةٍ كما حصل عامي 1989 "اتفاق الطَّائف" و2020 "اتِّفاق الدَّوحة"، أمَّا التَّعطيلُ الحالي فيبدو أن التَّغيِّراتِ الأخيرةِ التي شهدتها المنطقةُ وما سيتبعُها من متغيرات ستتكفَّلُ بوضعِ نهايَةٍ له نتيجةَ اختلالِ المُرتكزاتِ التي كانت قائمةً والتي لطالمَا استغلَّها مِحورُ المُمانعَةِ للإستقواء على باقي القوى في لبنان وفَرضِ حلولٍ تتناسبُ مع مَشيئتِه وتطلُّعاته.



يبدو أن المُتغيراتِ التي أنتجتها وستُنتجها الحرب القائمةُ ما بين محور المقاومة/المُمانعة قد قلبت المقاييس لصالِح العدو الإسرائيلي بتقويضِ القُدراتِ العَسكريَّةِ للمِحور ككل وعدمِ قُدرتِه على الإستمرار في مواقِفِه المُتصلِّبةِ، وخاصَّةً بعد إسقاطِ النِّظامِ البعثي في سوريا وانشغال إيران في الدِّفاعِ عن نفسها، والتي ستتسبَّبُ له بإحراجٍ كبيرٍ أمام جمهورهِ وبيئته الحاضِنة، نتيجةَ الخسائرَ البَشريَّةِ والماديَّةِ الفادِحَةِ التي لَحِقت بها وبلبنان واللبنانيين كافَّة، والتي يبدو أنه لغايةِ الآن لم تبدِ أيَّةُ دولةٍ شقيقةٍ أم صديقةٍ عن استِعدادِها للتَّكفُّلِ بتكاليفِ إعادةِ الإعمارِ أو المُساهمةِ فيها، قبل إعلان الحزب ذاته عن نيَّته في الإنضواء تحت سقف الدَّولةِ والتَّوقفِ عن الامتثالِ للتَّوجهاتِ الإيرانيَّة التي وقفَت موقفَ المُتفرِّجِ والمُهادنِ لأميركا وحليفتها إسرائيل بالتَّزامُنِ مع شَنِّ حربها الهَمجِيَّةً على الحِزبِ والتي كادن أن تقضي على قياداتِه وبنيتِه العسكريَّةِ واللوجستيَّة والماليَّة والاجتماعيَّة لولا الإتفاق "الهدنة".



هذه الحربُ التَّدميريَّةِ التي جُرَّ لبنان إليها بقرارٍ مُنفردٍ من حزب الله، وبغطاءٍ من دولةِ الرئيس نبيه بري رئيس المجلِسِ النيابي ورئيس حركةِ أمل، والذي يبدو أنه وجد نفسه مُضطًرّاً للدِّفاعِ عن الحزبِ بتَوجُّهاته وخياراته رَغمَ عدمِ اقتناعِه بجَدواها وإلمامِهِ بمَخاطِرها وتحمُّلِه لتَبعاتِها؛ ربما اليوم لم يعد مُضطرّاً لمُسايرةِ الحزب حفاظاً على الحزبِ أولاً وتجنيباً للبنان المزيدَ من المخاطر، لذا تراه يُبدي حماساً لتَمريرِ استحقاقِ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ وفقَ روحيَّةِ النَّصِّ الدُّستوري لجهةِ إعلانه المُسبق أن جلسةَ الإنتخابٍ المُقرَّرة الشَّهر المقبل ستكون مَفتوحةٍ وتتضمَّن دوراتِ اقتراعٍ مُتتاليَةٍ إلى أن يتمَّ انتخابُ الرَّئيس مُتخلِّيّاً بذلكَ عن تفسيرِه السَّابق للمادَّة 75 من الدستور والتي تجعل من المجلس الملتئم لانتخاب رئيسٍ للجمهوريَّةِ هيئةً انتخابيَّةً لا اشتراعيَّة، وبالتالي متَفرغاً حصراً لانتخابِ رئيس الدَّولة.



دولةُ الرئيس بري الذي كان يُجاري حزب الله بتعنُّته في انتخاب رئيس محسوب على الثنائي "الشيعي" أضحى اليوم، وخاصَّةً بعدَّ التَّحولات التي طرأت على منطقة الشَّرق الأوسطِ، مُقتنعاً بضَرورَةِ إنجاز الاستحقاق بأسرعِ وقت ممكن لانتِشال لبنان من عُزلتِه، وإن كان يُحبِّزُ السَّير بمُرشَّحٍ توافُقي إلَّا أنه لا يُمانعُ انتخابَ أيَّ مُرشَّح يُخرجُ لبنان من عزلته الدَّوليَّةِ ويُعيدُه إلى حاضِنتِه العربيَّة ويفتَحُ المجالَ أمام تَمويلِ ورشَةِ إعادَةِ البناء،. وهو بانعطافته هذه لا يُفرِّطُ بالحزب إنما يُجنِّبَه تَجرُّعَ كأسَ الإنكسار السِّياسي داخليّاً بعدَ أن ذاقَ مُرَّ طَعمَ الانكسارِ العَسكري في مواجهةِ العدو الإسرائيلي.


إلَّا أن السؤال الأساس يتمحورُ حول الكيفيَّةِ التي سيعتمدُها دولةُ الرئيس بري في تمريرِ هذا الإستحقاق الذي لم يكن متحمِّساً لإنجازه، وهل سينجحُ في إسقاطِ تنبُّؤاتِ المُحلِّلين الذين أبدوا تشاؤماً في إنجازِ الإستحقاقِ الجلسة القادمة؟ وهل سيكون من بين المُناوراتِ التي سيلجأ إليها تأمينُ نصابِ انعقادِ الجَلسَةِ وإحباطِ وصولِ أيِّ مُرشَّحٍ يتطلَّبُ انتخابُهُ نسبَةً موصوفَة ليُتيحَ المَجالَ أمامَ انتخابِ مُرشَّحٍ وسطي (كأرنبٍ يتكتَّمُ على اسمِه للسَّاعاتِ الأخيرة، ليتِمَّ انتخابُه بأكثريَّةٍ موصوفةٍ أو مُطلقَة؟ وهل لدى باقي الأطراف أرانبَ أُخرى يُعلنونَ عنها في حينه؟ ولمن ستكونُ الغلبةُ في لُعبةِ الأرانبِ السِّياسيَّة؟


إن الإنقِساماتِ التي أصابت بعض الكُتلِ البرلُمانيَّة، أتاحتِ المَجالَ لإمكانيَّةِ اجتماعِ أغلبيَّةٍ مًطلقَةٍ حولَ مُرشَّحٍ ما، وبالتالي تغليبُ فرضيَّةِ انتخابِ رئيس بمُجرد تأمين نِصابِ جلسةِ الانتخاب، والسَّير بآليَّةِ دوراتِ اقتراعٍ مُتتاليَة. ولكن لصالِحِ من سيكون هذا الخيارُ في ظِلِّ عدمِ ارتياحِ المَرجعيَّاتِ الحِزبيَّةِ والتَّقليدِيَّة لانتخابِ رئيسٍ يتمتَّعُ بحيثيَّةٍ وطنيَّةٍ جامعةٍ وبمَزايا رِيادِيَّة، خشيَةَ الحَدِّ من نفوذهم السِّياسِي ومُكتسباتهم الشَّخصيَّةِ والفئويَّة؟ ونخلُصُ من كُلِّ ذلك للقولِ أن انتخاب رئيس للجمهوريَّة في الجلسةِ المقرَّرة هو أمرٌ مُرجَّح، أمَّا من هو صاحبُ الحظِّ فيتوقَّفُ على براعَةِ الأقطابِ السِّياسيين في إتقان عقدِ صفقاتٍ مُستَترةٍ ومن تحت مقاعِدِ المَجلسِ النِّيابي، والتي ستتحكَّمُ بها لغةُ الوعودِ السِّياسِيَّة.



الخيارُ الرئاسيُّ الأفضلُ يتمثَّلُ بانتخاب مُرشَّح يحظى بتأييد مُعظمِ الكُتل النيابيَّة، أما الأسوأ فهو انتخابُ رئيسٍ مَحسوبٍ على طرفٍ مُعيَّن ولا يحظى بقبولٍ لدى باقي الأطراف، أمَّا الخياراتُ الوَسطيَّةُ أحسنُها مرشَّحٌ جامِعٌ قويُّ الشَّخصيَّةٍ قادرٌ على تحقيقِ أجماعٍ وطني حول المُرتكزاتِ الوطنيَّةِ المَصيرِيَّة، وأسوؤها مرشَّحٌ مُجمعٌ عليه لضَعفِه وكلُّ طرفٍ يعتقدُ أنه قادرٌ على استِمالتِه إلى جانبِه وتسييرِه وفقَ توجُّهاتِه أو يتَّخِذه أداةً لتَمريرِ مَشاريعِه.



أما ما يعنينا كلُبنانيين هو انتخابُ رئيسٍ حياديّ رياديّ رؤيويّ تَغييريّ غير استئثاري، مناهض للفَساد، عابر للطَّوائفِ مُترفِّع عن الإصطفافاتِ الثُّنائيَّة (8 و14 آذار)، تطلُّعاتُه وطنيَّةٌ جامِعَةٌ تأبى التَّفرُّدَ كما الإستِفراد. ومن الآن ولحين انعقادِ الجلسةِ الإنتِخابيَّةِ يبقى اسمُ الرئيس العتيدِ رهنَ التَّجاذُبِ في المواقِفِ المُعلنَةِ لِحينِ إخراجِ الأرانِبِ من أكمامِ صُنَّاعِ القرارِ المُخضرمين الذين مازالوا يَحتفظون بنُفوذِهِم السِّياسي على السَّاحَةِ اللُّبنانيَّة.


*عميد مُتقاعد