د. ميشال الشماعي

جذور الأزمة اللبنانيّة وآفاق الحلّ

19 أيلول 2020

02 : 00

غريب أمر السلطة السياسيّة الحاكمة في لبنان. تفوّت الفرص جميعها لتحافظ على مكتسباتها، وذلك كلّه على حساب الشعب اللبناني الذي لم يستطع بعد أن يتحوّل إلى شعب واحد، حتّى في أكثر لحظات بؤسه، بل بقي مجموعة شعوب متناحرة. وتتابع هذه السلطة تصرّفاتها الممنهجة ضمن أُطُر الفساد السياسي في مختلف نواحيه. كيف سيستثمر اللبنانيّون السياديّون الضغط الدّولي على هذه السلطة السياسيّة؟ وهل سيتمكّن هؤلاء من قلب المعادلة السياسيّة في ظلّ هيمنة واضحة للسلاح غير الشرعي على القرار السياسي؟

فعلى حدّ قول نبي الصين الفيلسوف كونفوشيوس: "لم يحدث قط أن وجد حاكم يحب الخير وتعجز رعيته عن حبّ الاستقامة. ولا حدث قط أن أحبّ شعب الاستقامة إلا وبدرت أمور الدولة بنجاح". جذور الأزمة اللبنانيّة تضرب في عمق المجتمع اللبناني الذي تحدّث المفكّر اللبناني "شارل مالك" في كتابه "المقدمة سيرة ذاتية فلسفيّة" عن "الذهنيّة اللبنانيّة الليفانتينيّة" التي خصّص لها فصلاً في الصفحة 336 من كتابه فقال: "أين النقاوة والبساطة والأصالة والوحدة الصارمة؟ أين العمق؟ أين البعد؟ أين الشمول؟ أين الكليّة؟ أين العضويّة؟ هذه مشكلة الليفانتينيّة، هذا قدرنا المرير في هذه الأصقاع".

إذا جذور الأزمة اللبنانيّة تكمن في تلك الذهنيّة التي أشار إليها مالك، كذلك في الابتعاد عن فلسفة كونفوشيوس "القائمة على القيم الأخلاقية الشخصية وعلى أن تكون هناك حكومة تخدم الشعب تطبيقاً لمثل أخلاقي أعلى". من كونفوشيوس الذي عاشت فلسفته عشرين قرناً لصدقه، وإخلاصه، واعتداله، وعقلانيّته وعملانيّته؛ إلى مالك واضع المادّة 18 من الشرعة العالمية لحقوق الانسان التي ستبقى حتى زوال الحريّة، وهذا محال؛ مالك المثالي المبدئي المقاوم، هنالك آلاف السنين من الفكر السياسي- الاجتماعي الذي لم يستطع اللبنانيّون بكلّ عظمتهم التاريخيّة أن يحقّقوا ولو جزءاً يسيراً منه.

ما لم يتحرّر بعض السياديّين من مصالحهم الذاتيّة على القاعدة الكونفوشيوسيّة - المالكيّة لن يتمكّنوا من الاستفادة من أيّ ضغط دولي على هذه السلطة الحاكمة اليوم. ما هو مطلوب اليوم تغيير هذه الذهنيّة الماركنتيليّة المتمرّغة باللذائذ، والشهوات، وحبّ تكديس الأموال، والبذخ، على حساب الخير العام. نحن بحاجة إذاً إلى ثورة قيميّة كيانيّة، وعلى ما يبدو أنّ التعميم القاتل الذي تأخذه ثورة 17 تشرين نهجاً لها سينقلب سلباً عليها؛ لذلك المطلوب إعادة القراءة السياسيّة على ضوء الفكر الأخلاقي الذي استخدم السياسة للخير العام وليس لمنفعته الشخصيّة. ونعم "كلّن يعني كلّن" للمحاسبة.

أمّا آفاق الحلّ فتبدأ بقيادة عمليّة تَحَرُّرٍ لهيكليّة الدّولة من ربقة السلاح غير الشرعي لتحرير قرارها السيادي والسياسي. لكن على ما يبدو أنّ فريق السلطة بريادة "حزب الله" يتقن فنّ الرّقص على حافّة الهاوية. لذلك رهان الانقلاب على الديبلوماسيّة الدوليّة ما زال قائماً حتّى هذه الساعة. ويبدو أنّ "الحزب" وإيران من ورائه متمسّكين بما حصلا عليه في انتخابات 2018، فالتخلّي عن لبنان لصالح الديبلوماسيّة الفرنسيّة من الواضح أنّه مرفوض.

ربّما يلجأ هذا الفريق إلى تسهيل ولادة حكومة ولو صُوَريّة في اللحظة الأخيرة، لأنّه لن يستطيع إبقاء البلد في ثلاجة الانتظار. لكن هذه المسرحيّة السورياليّة إن حصلت، لن تمرّ. ولن يستطيع التفلّت من مقصلة العقوبات الأميركيّة بجعله لبنان كلّه ورقة تفاوض في التسوية الكبرى. فبنهاية المطاف قانون ماغنيتسكي قُدِّمَ من قبل الحزبين الجمهوري والديموقراطي وصادق عليه الرئيس أوباما في كانون الأوّل من العام 2012، كما وقّع الرئيس ترامب في العام 2017 الأمر التنفيذي رقم 13818 الذي سمح له بمعاقبة الفاسدين إلى جانب تهمة التعدّي على حقوق الانسان. وهو وجد ليطبّق، بغضّ النّظر عن الحزب الحاكم في الولايات المتحدة، وبعيداً من أيّ مساومات على الطريقة اللبنانيّة.

لكن لن يستطيع أيّ لبناني، مهما بلغت قوّته التمثيليّة، أن يقلب المعادلة السياسيّة في ظلّ وجود السلاح غير الشرعي. ولن يتمكّن المجتمع الدّولي من انتزاعه انتزاعاً بل ما سيحصل، هو تحرّر فكريّ حضاريّ للبيئة التي تحضن هذا السلاح. فبنهاية المطاف لن تستطيع أن تكون في التركيبة الكيانيّة اللبنانيّة وتحيا خارجها. هذه الازدواجيّة الحضاريّة ستسقط بأصوات بيئتها، وسرعان ما ستعود إلى صلب الدّولة لأنّها منها وفيها. هكذا أرادها أب لبنان الكبير البطريرك الحويّك، وهكذا أرادها البطريرك صفير الذي ما فتئ يردّد: "لبنان ليس للمسيحيين أو للمسلمين بل المسيحيّون والمسلمون هم للبنان".

هكذا يتحرّر القرار السياسي اللبناني، والسلاح بقدرة حاضنيه سينتقل إلى الدّولة، إلى مكانه الطبيعي، لأن لا أحد يريد أن يواجهه بالمثل. المطلوب واحد وسيتمّ. شاء من شاء، وأبى من أبى.


MISS 3