ذات يوم يقع في منتصف التسعينات، زرت السيد هنري صفير في مبنى تلفزيون الـ ICN و "نداء الوطن" في الأشرفية. بعد لقاء غير مثمر، عرّجت على مكتب الأستاذ سامي غميقة وكان منكباً على "تركيب" صفحتَي المنوعات. قال لي أتعرف ما يدفع معظم القراء لشراء جريدة الأنوار؟ أجبت: "أرخص من النهار" أضاف "وفيها كلمات متقاطعة، وتابع كل جريدة تتميز بشيء". وأريد أن تتميز "نداء الوطن" بصفحتين "ترقصان" وتشدّان العيون إليها حتى جريدة "النهار" تقرأ فيها صفحة الوفيات بمتعة" وضحك.
معك حق أستاذ. يعتمد معظم نواب لبنان، وعليّة القوم، وأصحاب الواجبات والحشريون ومتابعو الأتراح على صفحات الوفيات كمراجع موثوق بها، تفيدهم في جدولة أنشطتهم. وليتك عشت إلى ما بعد العام 1999 لترى انتشار أوراق النعي على وسائل التواصل الاجتماعي والـ "واتس أب" وسعادة ذوي الفقداء بـ"كمّ" اللايكات وكمية الدموع الهاطلة من الـ "إيموجيات" كلما خسروا مربية فاضلة.
"النعوة" ليست فقط إشعاراً خاصاً، بل هي فرصة للتباهي الاجتماعي فيحرص ذوو المتوفى على ذكر أولاد المرحومة مع ألقابهم: المهندس نبيل وعائلته والمحامي كميل والدكتورة هديل، ومنذ فترة ورد في نعي خبير أن شقيقه أيضا خبير وابن شقيقه كذلك من دون تحديد إطار الخبرة. قد يكون الثلاثة خبراء سير أو خبراء محاسبة أو خبراء بيئة أو خبراء استراتيجيين،وأكثر الألقاب وروداً في أوراق النعي ضباط الأسلاك العسكرية، مع استثناءات قليلة إذ يحظى المعاون الأول المتقاعد بلفتة إذا كان الأعلى رتبة في قريته وعلى قرابة مع المختار. الصحافي ومدير البنك، ونائب رئيس الفرع. ورئيس البلدية، والممثل والمدير السابق للتكميلية ونادراً ما تقع عينك على معلّم حدادة أو مزين نسائي أو نحّال بين أنسباء الفقيد.
الجامع بين أوراق نعي المسلمين والمسيحيين تقدّم الذكور على الإناث وأحياناً ترد أسماء الأصهرة من دون كريمات الراحل الكبير.
وهذا التمييز الجنسي لفت الدكتور أحمد بيضون فكتب "بوستاً" مستنكراً إلحاق الزوجة بزوجها والتمييز بين الجنسين مقترحاً ذكر الإناث والذكور بترتيب السن.
في سنتي الكورونا، ومنعاً للتقارب الاجتماعي و"تمجيق" كريمات الراحل دَرَجَ استبدال أيام الأخد بالخاطر باتصالات التعزية، وأرقام المفجوعين ترد إلى جانب أسمائهم في أوراق النعي.
هل من دوافع أخرى لإدراج رقم أحد أقارب المنتقل إلى جوار ربّه؟ مؤخراً تفرّدت كنة أحد المتوفين، دون سائر أفراد العيلة بهذا الامتياز . جمانة... معالجة فيزيائية. الخلوي كذا. رقم العيادة كذا.
كم تشبه جمانة أرتين، الذي نص أربعة أسطر على محرر صفحة الوفيات. أخبره المحرر أن بإمكانه إضافة ثلاث كلمات على نعي الوالد فنص عليه "وأرتين بيصلّح ساعات". هي نكتة قديمة ربما. والجديد أن ابن أحد الراحلين أورد اسم خطيبته في ورقة نعي والده، وما كان ينقص سوى إبدال الأكاليل بالتبرّع للعريس!