هناك من رفع شعار خرق الدستور للتشويش على انتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية، حيث كان من المفهوم إطلاق هذا النقاش المحموم لو طرح في أروقة الصفوف الأكاديمية. أما أن يأتي من الفئات السياسية ذاتها المسؤولة عن هتك الدستور وهتك السيادة وخراب البلد، فهو أكبر مراءاة وأقبح هزال. إن انتخاب الرئيس بأغلبية تفوق ثلثي أعضاء المجلس النيابي يجعل الطعن أمام المجلس الدستوري مستحيلاً من الناحية العملية والقانونية، لتوجب توافر ثلث عدد النواب لمقبولية هكذا طعن. وعليه، أصبح انتخاب رئيس الجمهورية باتاً من الناحية الدستورية. كما يذكر البروفيسور زهير شكر في كتابه "الوسيط في القانون الدستوري اللبناني" الصادر في العام 2008 أن أي عمل من أعمال السلطة لا يُطعن بدستوريته يصبح حائزاً على الشرعية الدستورية المطلقة. حيث من غير المنطقي لا قانونياً ولا أخلاقياً الحديث عن المس بالسيادة في سياق المساعدة الخارجية لدولة منهارة مثل لبنان.
إن خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية كان تاريخياً في جميع المعايير، وقد جاء ليحمل الأمل بطيّ صفحة مريرة من تاريخ لبنان، ويعلن بوضوح سمو الأخلاق الدستورية والسيادية والحضارية وتصدرها للحياة العامة، بما يقوم على طرف نقيض مع الولاءات الثقافية التي تؤسس لخطابات الشيخ نعيم قاسم.
فلبنان اليوم يواجه خروقات مستمرة للسيادة على الصعد كافّة: من حرب إسرائيل على "حزب الله" التي لم يكن للبنان قرار بها، واحتلال إسرائيل لأجزاء من الجنوب، إلى وجود الميليشيات التابعة للمحور الإيراني خارج إطار الدولة، والمخيمات الفلسطينية التي تشكل بؤراً أمنية خارجة عن سلطة الحكومة. إن علاقة لبنان بسوريا ملتبسة، مع تواجد أكثر من مليوني لاجئ سوري بشكل غير شرعي وتدخل دولي في هذا الملف مشفوع بتواطؤ داخلي، وعدم ترسيم الحدود، وعدم إلغاء معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق المذلة للسيادة. إن السلطة القضائية متعثرة إزاء الفشل المنهجي في أداء مهامها ولا سيما العجز في معالجة الملفات الحساسة، مثل تفجير المرفأ وملفات الاغتيالات السياسية. أما الاقتصاد فهو قابع في حالة الانهيار الشامل، والقطاع المصرفي في حالة إفلاس فعلي مع إفلات من المحاسبة حتى الساعة، وصندوق النقد الدولي الذي يجسد التهتك بالسيادة الإقتصادية للدول بأبشع صورة يتحضر لفرض إملاءاته على لبنان، فيما بالكاد تواصل المؤسسات الرسمية عملها بفضل برامج المنح من قبل المنظمات الدولية، وذلك طبعاً وفق ما يخططه الأجانب مشكورين! والأدهى من هذا كله أن اتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل تحكم عملها لجنة مكونة من خمس دول تترأسها أميركا.
وبناء عليه، هل كل هذه الخروق للسيادة حلال وغيرها حرام؟ فأين ذلك من المبدأ الدستوري السامي الذي ينص على كون السيادة لا تتجزأ! وقياساً معه، إن قبول المساعدة ومسحها بإطار الشرعية في موضع معين يستتبع قبولها في سائر المواضع حين تكون الحاجة ملحة تجنّباً لكارثة أعظم، وبالتالي من ينزعج من التدخل الدولي للمساعدة على حل مشكلة الفراغ الرئاسي، من دون أن تزعجه التدخلات الخارجية في سائر أحوال البلاد، هو مجرد غوغائي وعبثي ولا بل عدمي.
فأوروبا عندما انهارت تحت نير الاحتلال النازي، استقبلت المساعدة العسكرية الأميركية بالأحضان، وبعد انتهاء الحرب فتحت ذراعيها لمشروع مارشال الأميركي لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي ولعزل المد الشيوعي خلف الستار الحديدي. فلنتواضع قليلاً ولنهتدي بمآثر التراث الأوروبي في التعامل مع الأزمات. يحكى مرة أن الجنرال ديغول العظيم امتعض من التدخل البريطاني في سياسة فرنسا حينما كان يتزعم حكومة فرنسا الحرة في المنفى ويلتجئ على أراضي بريطانيا نفسها، فردّ عليه تشرتشل قائلاً: "ديغول رجليه في الهراء وأما رأسه في السماء!" فلنخرج أنفسنا من الهراء أولاً، ومن ثم ننبري لتحقيق المثاليات التي كلنا نرتجي ونريد.
(*) محامٍ وباحث في مجال حقوق الإنسان والفدرالية