رافاييلا فون بريدو

عالم البيئة ميرلين شيلدريك: الفطريات قد تُغيّر نظرتنا إلى العالم!

26 أيلول 2020

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

نال ميرلين شيلدريك (32 عاماً) شهادة دكتوراه في علم البيئة الاستوائية من جامعة "كامبريدج" بعدما أجرى بحثاً عن الشبكات الفطرية تحت الأرض في غابات بَنَما الاستوائية. منذ ذلك الحين، لم يَخِفّ انبهاره بالفطريات! هو مؤلف كتاب Entangled Life: How Fungi Make Our Worlds, Change Our Minds and Shape Our Futures (حياة متشابكة: كيف تصنع الفطريات عوالمنا وتُغيّر عقولنا وترسم مستقبلنا) الذي نُشر في بداية شهر أيلول.

نحن موجودون في حديقة "هامبستيد هيث" في لندن. تذكر في كتابك أن هذا المكان يؤثر بك أكثر من أي مكان آخر. ما السبب؟


أنا نشأتُ في هذا المكان وتعلّمتُ السير هنا. ثم تسلّقتُ الأشجار هنا وأقمتُ الحفلات مع أصدقائي لاحقاً. هذا المكان هو الذي طوّر اهتمامي بالطبيعة. كنت أهتم دوماً بتحوّل الأشياء وطريقة نموها وتفككها ولطالما اندهشتُ باختفاء أكوام الأوراق مع مرور الوقت. كيف يحصل هذا التحول من دون أن نشاهد شيئاً بأم العين؟ سرعان ما فهمتُ أن تَحلّل المواد العضوية ينجم في معظمه عن الفطريات. الفطريات بالغة الأهمية. يرتكز علم البيئة بشكلٍ أساسي على العلاقات القائمة بين الكائنات الحية، وتنتج الفطريات روابط بين تلك الكائنات وتجسّد هذه الفكرة على أكمل وجه.

إذا كانت الفطريات مهمة لهذه الدرجة، لماذا لا نراها في كل مكان؟

الفطريات موجودة في كل مكان. تشمل الورقة الواحدة بين عشرات ومئات أجناس الفطريات التي تعيش فيها وعليها. لم يسبق أن وُجِدت أي نبتة تخلو من الفطريات في أوراقها وجذوعها وسط الطبيعة. وتنتشر الفطريات أيضاً في كل مكان على الجذور العشبية التي ندوس عليها والأغصان المتعفنة والتربة تحت أقدامنا. كذلك، تغطي الخميرة أجسامنا وتنتشر في بطانة الأذن وفتحة الأنف. وفي الهواء أيضاً، نحن نتنشّق في هذه اللحظة الفطريات. ويطوف 50 مليون طن من الأبواغ الفطرية في الغلاف الجوي، وهي أكبر مصدر للجزيئات الحية في الهواء. كما أنها تغيّر أحوال الطقس عبر المساهمة في تكوين قطرات المياه.



فطر أمانيت الذباب



هل يستخف العلماء بأهمية الفطريات؟


لقد استخفوا بها لوقتٍ طويل على الأقل. حتى فترة الستينات، كانت الفطريات تُعتبر نوعاً من النباتات ولم تكتسب تصنيفاً مستقلاً قبل هذه الحقبة. لكن غيّرت تقنيات التسلسل الجديدة هذا الوضع. اليوم، نستطيع أن نقرأ الحمض النووي في كل ملعقة صغيرة من التربة ونكتشف مكوّناتها. أجناس الفطريات تفوق النباتات بستة أضعاف، وتتراوح نسبة الأنواع التي وُصِفت بدقة بين 6 و8% فقط. ما زالت معلوماتنا عن هذا الموضوع قليلة! لكن ثمة أمر مؤكد واحد: تتعدد خصائص الفطريات.

هل تنجم قلة تقدير الفطريات عن اعتبارها غير مغذية أو حتى سامة؟


إنه رأي الكثيرين. لكن يحتوي عدد كبير من الفطريات على معادن ضرورية وكمية كبيرة من مضادات الأكسدة. هي تنتج مجموعة مدهشة من العناصر التي تؤثر على السرطان أو الفيروسات أو جهاز المناعة البشري. كذلك، يكون الفطر غنياً بالبروتينات. الكمأة مثال ممتاز على أنواع الفطريات الصالحة للأكل. الفطريات في الأصل مُعدّة للاستهلاك. تقبع الكمأة في عمق الأرض، حيث تعجز الرياح عن نشر أبواغها. هي تجذب الحيوانات بخليط سلس جداً من الروائح كي تلتهمها تلك الحيوانات لاحقاً وتنشر أبواغها.

يغرينا بعض أنواع الفطر عبر عناصر تؤثر على وعينا مباشرةً...

هذا صحيح. يحتوي حوالى 200 نوع فطري على عنصر السيلوسيبين الذي جذب اهتمام الناس نظراً إلى آثاره المخدّرة القوية.

الغزل الفطري (الميسيليوم) على خشب متعفن



هذا النوع من الفطر يُسبب هلوسات ويغيّر طريقة تفكيرنا. كيف يستفيد الفطر من تصنيع أدوية مخدّرة للبشر؟

لا نعرف ذلك. عاشت أولى الأنواع الفطرية التي تنتج السيلوسيبين طوال 75 مليون سنة، قبل ظهور البشر بوقتٍ طويل. لكن يمكن إيجاد المستقبلات التي يتّصل بها هذا العنصر في عدد كبير من الحيوانات أيضاً. هل يغيّر السيلوسيبين سلوك الحشرات لجعلها تنشر أبواغها الفطرية أم أنه يغير سلوكها لمنعها من التهام الفطر؟

أنت تنسب قدرات معرفية إلى الفطريات. ما الذي أقنعك بذلك؟

أنا أفكر بهذا الموضوع منذ فترة. تهمّني نظرة الفطريات إلى بيئتها وطريقة تفاعلها معها. لا تكفّ المعلومات عن التدفق عبر أجسامها اللامركزية.

ما الذي تدركه الفطريات؟

أهم ما في الأمر هو أنها مزوّدة بأجهزة استشعار كيماوية متنوعة جداً. يمكن اعتبار الفطر غشاءً كبيراً وحساساً من الناحية الكيماوية أو حتى ظهارة شمّية كبيرة إذا جاز التعبير. لكن يستطيع عدد كبير من الفطريات استشعار الضوء ويكون حساساً تجاه الجاذبية وتقلبات الحرارة والضغط.



الفطر السحري الذي يحتوي على السيلوسيبين



هل تستطيع الفطريات تحت أقدامنا أن تشعر بوجودنا إذاً؟


قد تشعر أنواع معينة من الفطريات بضغط خطواتنا. لكنّ السؤال الأساسي هو التالي: كيف تعالج هذه المعلومات كلها من دون دماغ وكيف تُحوّلها إلى سلوك أو عمل معيّن؟

عمل؟ سلوك؟ ما الذي تفعله الفطريات تحديداً؟

الفطريات ناشطة جداً. قد تقوم بالصيد مثلاً.

عفواً؟ هل تجيد الفطريات الصيد؟

نعم. حين تصبح الأغذية شحيحة، تنتقل الفطريات أحياناً إلى نمط الصيد، فتبني أفخاخاً مؤلفة من حلقات لزجة أو قطرات سامة. ثم تجذب الديدان الخيطية إلى تلك الأفخاخ عبر عناصر خاصة.



زراعة البنسلين



هل هذا "السلوك" هو من النوع الذي نشاهده لدى الحيوانات؟

نحن نستطيع الهرب من المخاطر. أما الفطريات فتضطر لمواجهتها. لهذا السبب تدافع عن نفسها بمساعدة عناصر كيماوية أو تعيد تجديد نفسها. لكن تتخذ الفطريات القرارات في مطلق الأحوال كما نفعل نحن وتحصل على خيارات عدة: مكان نموها، وأنواع طعامها، والمغذيات التي تريد نقلها، وتوقيت الانسحاب أو مطاردة الديدان الخيطية. يشكّل كل نوع من الفطريات آلاف الخيوط الفطرية: إنها أنابيب رفيعة قابلة للنمو أو الانقسام أو الانصهار.


إذا كانت الفطريات تتخذ القرارات، هل تستطيع أيضاً أن تحل المشاكل؟


طبعاً! يتبع مسار نموها مثلاً أنواعاً فعالة جداً من أنظمة التنقل. تتنوع التجارب التي تجد فيها الفطريات أقصر طريق لعبور المتاهات بسرعة فائقة.


إذا كانت الفطريات، كما تدّعي، شبكات معقدة لمعالجة المعلومات، هل يعني ذلك أنها نوع من الأدمغة؟


لا، لن أقول ذلك. لكنك محق من ناحية معينة لأن الخلايا العصبية تنمو وتنشط كهربائياً وتنتج الشبكات. تنطبق الصفات نفسها على الخلايا الفطرية.


هل يتمتع الفطر إذاً بشكلٍ من الذكاء؟


يتوقف الأمر على تعريف "الذكاء" في هذه الحالة. بشكل عام، تتمتع جميع الكائنات الحية بنوع من الذكاء ولو بدرجات مختلفة. اشتقت دراسة الإدراك والذكاء في الأصل من تحليل العقل البشري، ما أدى إلى انتشار رؤية بشرية جداً ومحصورة بالدماغ. من اللافت برأيي أن نوسّع تلك الاعتبارات كي تشمل الكائنات التي لا تحمل أي دماغ. يجب ألا نعتبر الإنسان المقياس الوحيد لإصدار الأحكام على جميع المسائل الأخرى في هذا العالم.


هل تكثر المعلومات التي تستحق الاستكشاف بعد عن إدراك الفطريات؟

طبعاً. لا نعرف الكثير عما تفعله الفطريات لتنسيق سلوكياتها. ولا نعرف الآليات التي تستعملها لتمرير الإشارات في محيطها. ولا نفهم بالكامل بعد المعطيات البيولوجية الأساسية لنمو الغزل الفطري.

يشعر عدد كبير من علماء البيئة بالحماس تجاه مفهوم "الشبكة الخشبية الواسعة" التي تربط بين الأشجار بطريقة غامضة عبر الفطريات في التربة ويقال إنها تتواصل عبر تلك الشبكة الواقعة تحت الأرض أيضاً.

في بعض التجارب أُعيق أي تواصل مباشر بين نبتتَين، من خلال تبادل الغاز عبر الهواء مثلاً، فأصبح الغزل الفطري الرابط المتبقي الوحيد بينهما. ثم وُضِعت حشرات المن على نبتة منهما، فشغّلت النبتة الثانية آلياتها الدفاعية ضد الحيوانات المفترسة. إنها عملية منطقية من وجهة نظر الفطريات حصراً وتتوقف على شريكتها النباتية. إذا هلك أحد الشركاء، من مصلحة الفطريات أن تصمد النباتات الشريكة الأخرى. يمكننا اعتبار الفطريات أداة وساطة لتحديد طبيعة العلاقات بين النباتات بما يصبّ في مصلحتها الخاصة.


ما نفع الفطريات عدا عن وظيفتها البيئية المهمة؟

بات استعمال الفطريات كمادة بناء أساسية مجالاً جديداً ومثيراً للاهتمام مثلاً. وقد يصبح الغزل الفطري بديلاً عن البوليسرين ويغيّر قطاع التعبئة والتغليف بطريقة جذرية. ويمكن صنع الجلود أيضاً بمساعدة الفطريات.

نشعر وكأنك ستخبرنا بأن الفطريات قد تنقذنا من فيروس كورونا أيضاً!

هذا ممكن. الفطريات ممتازة في مجال الحماية الكيماوية. هي تضطر للدفاع عن نفسها ضد الجراثيم والفيروسات طوال الوقت. في الولايات المتحدة، بدأ مشروع بحثي لفحص السلالات الفطرية وتحليل خصائصها المضادة للفيروسات. هو يركّز أيضاً على فيروس كورونا طبعاً لكن لا يزال الوقت مبكراً للتأكيد على فاعليتها.



كمأة "بيريغورد"



هل تساعد الفطريات أيضاً على محاربة التغير المناخي؟

طبعاً! تساعد الفطريات التربة على تخزين ثاني أكسيد الكربون، فتزيله من الغلاف الجوي. كما أنها تغذي النباتات، ما يساعدنا على إنقاذ الأسمدة الغنية بالطاقة. كذلك، نستطيع إنقاذ الوقود الأحفوري إذا استعملنا الغزل الفطري كبديل عن البلاستيك. ويعمل الكثيرون لإنتاج بدائل لحوم غنية بالبروتينات انطلاقاً من الفطر. لن تكون الفطريات حلاً لجميع المشاكل طبعاً، لكنها قد تغيّر نظرتنا إلى العالم. سندرك تدريجاً أن جميع الكائنات الحية تتكل على الميكروبات. نحن البشر لدينا بيئة ميكروبية مؤلفة من الجراثيم، وتحمل هذه الأخيرة جراثيم أصغر حجماً تعيش فيها الفيروسات، وتأوي هذه الأخيرة بدورها فيروسات أصغر حجماً. حين ندرك أن جميع مظاهر الحياة ترتكز على هذه الروابط الوثيقة، سنفهم أننا لا نستطيع أن نعتبر أنفسنا أفراداً منفصلين. نحن مُكوّنون من ملايين الكائنات الحية التي تعمل وتتعاون وتتنافس وتتصارع في ما بينها.

هل نحن أنظمة بيئية؟

نعم، نحن عبارة عن شبكات معقدة جداً. هذه الرسالة من عالم الفطريات كفيلة بتغيير علم الأحياء بأكمله.

هل غيّرتك أنتَ شخصياً؟

نعم، أنا أنظر إلى العالم بطريقة مختلفة اليوم. لقد أدركتُ أن فكرة الفرد كوحدة بيولوجية مشكوك بها. الفرد ليس فئة واضحة بحد ذاتها بل إنه افتراض أكثر مما هو واقع.


MISS 3