مريم سيف الدين

وعود بباصات جديدة وخط نقل سريع بين بيروت والشمال

"جحش الدولة" كان الزمان وكان

17 آب 2019

01 : 08

لم يعد باص النقل المشترك الذي اشتهر باسم "جحش الدولة" مَلك الطريق وسيّد النقل العام بعدما اضطر للخروج عن مساراته. رسمت له وسائل النقل الأخرى حدوده، فانحسر تحركه اليوم على بعض خطوط البقاع وبيروت فقط، فيما لم يبق من "الأسطول" الذي كان يعبر المناطق اللبنانية سوى 45 باصاً، يسير منها اليوم 27 فقط، 5 منها تسير على أربعة خطوط في البقاع وتركن في محطة مصلحة السكة الحديد والنقل المشترك في رياق. وتسير الباصات الـ 22 الأخرى على تسعة خطوط في العاصمة بيروت، وهي لا تكفي إذ هي بحاجة إلى تشغيل 21 خطاً للنقل، لا تسعة فقط، والكثير من الباصات.

حضور هزيل يخفي الكثير من القصص. هو إذاً، حضور ضعيف فولكلوري وليس عملياً. وكما على الطريق، كذلك في قصص المواطنين ويومياتهم، تراجع "جحش الدولة" وبات الفان رقم 4 أقوى منه، ويفوقه شهرة وفعالية وسرعة. ويشغل الرقم 4 خطاً حيوياً ممتداً بين حي السلم والحمرا عند مدخل مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. ركّاب الفان بمعظمهم من الشباب المتجهين نحو جامعاتهم ومقاهي الحمرا وبالعكس، ما جعله موضع حديثهم ومحط نكاتهم نظراً لغرابة سائقيه وطرافة بعض المواقف. حيوية هذا الخط والأرباح التي يجنيها السائقون، لم تغرِ الدولة لتسيّر باصاتها على "خطاه". فالدولة أصبحت سائقاً ضعيفاً عاجزاً عن تنظيم قطاع النقل بل وغائباً عنه، ما جعل المواطنين يخلطون بين "جحش الدولة" و"جحش" القطاع الخاص. فبعض الحافلات الكبيرة التي يستقلها الركاب معتقدين أنها "جحش دولة" ليست سوى باصات تابعة لمؤسسات خاصة لا يحق لها أصلاً العمل ومنافسة باصات الدولة. ولـ "جحش الدولة" تاريخ طويل ساهمت أحداث لبنان وأزماته وصفقات مسؤوليه المشبوهة مجتمعة في تردي وضعه، وكادت تتسبب بانقراضه، قبل أن تُبقي على بعض دلالات وجوده.

الحرب والأمن والهواجس

خلال الحرب التي بدأت في العام 1975 تضرر قسم كبير من هذه الباصات. واستخدمت الأطراف المسلحة حافلات الدولة كمتاريس عريضة ومحصنة لحماية نفسها. وارتبطت حركة الباصات خلال فترة الحرب الأهلية بالوضع الأمني، فكان كل منها يعمل ضمن منطقته. ففي بيروت التي قسمت بين "شرقية" و"غربية" التزم كل باص حدود منطقته، واعتادت الباصات على التوقف عن العمل في فترات المعارك، مع توقف الناس عن التجوّل. في اليوم الأوّل من هدنة العام 1977 انطلق باص الدولة مجدداً وعبر بين المنطقتين لأول مرة بعد ما عرف بحرب السنتين، سار من الحمرا وتوقّف عند المجلس الحربي التابع لـ "حزب الكتائب" في منطقة الكرنتينا. وتراوحت تعرفة الرحلة داخل بيروت بين 15 و25 قرشاً، فكان يدفع الراكب المتجه من الحمرا إلى البربير 15 قرشاً، أما إذا أكمل نحو الأشرفية فيدفع 25 قرشاً. وكان هاجس الركاب خلال الحرب أن يضع أحد ما المتفجرات داخل الحافلة. ويبدو أن قطاع النقل العام كان أكثر تنظيماً قبل الحرب الأهلية. إذ كان لمصلحة النقل المشترك سلطتها على الشوارع. فلم تنافس الباصات الصغيرة والكبيرة "جحش الدولة" عبر البلطجة، إذ كانت لها خطوطها "كبواسط" عين الرمانة وتلك العاملة على الخطوط الجبلية، كما كان لسيارات الأجرة مواقف مخصصة تنطلق منها، رغم أن البعض يروي أن أصحاب السيارات كانوا يسعون لتشويه صورته ليكسبوا الركاب. ومعظم ركاب "جحش الدولة" كانوا من الطبقة الفقيرة، بالإضافة إلى ركاب من الطبقة المتوسطة، لكن هؤلاء لم يعتمدوا على الباص في تنقلاتهم كما فعل الفقراء. بل كان بعض متوسطي الحال يستقلون الباص عندما لا يشعرون بضيق الوقت، لأن رحلته تتطلب وقتاً أطول. أما النساء منهم فكنّ يتجنبن صعود الباص خشية التعرض للتحرشات، لكن الأمور كانت مضبوطة إلى حد ما، وفق بعض من عاصر تلك المرحلة. "فوضى منظمة" ووعود تنتظر التنفيذ. انتهت الحرب بعد أن تمكنت من إصابة "جحش الدولة" كما أصابت كل الوطن، فكاد يختفي نتيجة الإهمال المتعمّد ممن اقتاتوا على جثته، ونتيجة المنافسة غير الشريفة التي فرضها تجار ومسؤولون ورجال أعمال وعاملون في قطاع النقل. الجميع تآمر على "جحش الدولة"، وبدل إعادة تفعيل باصات النقل المشترك بعد الحرب الأهلية، أُغرق السوق باللوحات العمومية الحمراء. واستحكمت الفوضى في هذا القطاع.



الفوضى المنظّمة

في مقابلة مع "نداء الوطن" يصف مدير مصلحة السكة الحديد والنقل المشترك زياد نصر هذه الفوضى بـ "الفوضى المنظمة"، "هناك من يدير هذا التنظيم في غياب دور أساسي مركزي للدولة اللبنانية". ويلفت نصر إلى مسؤولية وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي ووزارة الأشغال في تنظيم وضبط قطاع النقل. إذ يعمد سائقو الباصات الأخرى ومشغلوها إلى تهديد ومضايقة سائقي باصات الدولة وإعاقتهم عن عملهم. يدرك نصر هذا الواقع، ويتحدث عن الخوات التي تفرض على العاملين في النقل وعن احتكار بعض المناطق والمواقف وتنظيمها من دون تكليف رسمي من أحد. هو إذاً اضطهاد تعرض له "جحش الدولة" من دون أن يجد من يحميه، فأقصيَ وتضرر معه المواطنون وتحولت رحلاتهم اليومية إلى معاناة مادية ومعنوية.

«المنحة»... والضربة الموجعة

محاولات عدة نجحت في الإبقاء على أثر لهذا الباص. ففي العام 2000 زوّد القصر الجمهوري أيام الجنرال لحود، مصلحة النقل المشترك بـ 37 باصاً بعد أن منحته الإمارات 40 باصاً، مبقياً على ثلاثة منها، بعض هذه الباصات تعطل لاحقاً. وفي العام 2004 أصدر مجلس الوزراء قراراً يقضي بشراء 250 باصاً، لكن القرار لم ينفّذ. واتهم وزير المالية في حينها، فؤاد السنيورة، بإعاقة تنفيذه. وفي العام 2012 قام وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي بشراء 20 باصاً لوضعها في الخدمة، واتهم بتخصيص 6 منها للعمل على خط يربط الكولا بخلدة وببلدته بيصور. لكن الضربة الموجعة تلقتها المصلحة في العام 1997من خلال صفقة حافلات "الكاروسا"، عندما اشترت الدولة اللبنانية 200 حافلة "كاروسا" تشيكية. يومها وصلت الحافلات إلى لبنان ليكتشف المعنيون أن نصفها معطل، فجرى شحنها إلى موقف مار مخايل، والقسم الصالح منها تعطّل بمرور الوقت. وتبيّن للدولة فشل الصفقة بعد أن اكتشفت أن هذه الباصات لا تصلح للعمل في مناخ لبنان، من دون أن يحاسب أحد . ولا يزال بعض هذه الباصات مرمياً في محطة مار مخايل، تغطيه الرسومات والغبار.

وبينما تختنق شوارع بيروت وضواحيها بالسيارات، وتزداد معاناة الركاب من سوء حال قطاع النقل الذي فشل القطاع الخاص أيضاً في إدارته، يدرك الجميع ضرورة إقرار وتنفيذ خطة نقل حديثة. وفي حين كان قد أعلن ومنذ العام 2015 عن مشروع نقل عام للركاب ضمن بيروت الكبرى بما في ذلك النقل السريع على الخط الساحلي، وقيل أن المشروع يشكّل نظام نقل متكاملاً لخدمة كافة المناطق ضمن بيروت الكبرى وربطها مع مراكز المحافظات، غير أن تنفيذ المشروع لم يبدأ. وبعد أربع سنوات من الإعلان عن المشروع تمكنت الحكومة من إقرار الخطة منذ أسابيع قليلة، وفق نصر، الذي رأى فيها "نقلة نوعية، فللمرة الأولى منذ عقود من الزمن يجري استثمار جدي ومجدٍ في قطاع النقل العام".

وفي حين احتاج إقرار الخطة إلى أربع سنوات ولم يقرّ إلا بدفعٍ من "سيدر"، يرفض نصر تحديد موعد لبدء تنفيذ المشروع وانطلاق العمل به، ويكتفي بتأكيد أنه أولوية لدى المعنيين، "فوزير الأشغال أعطى عنايةً خاصة لتنفيذ مشاريع النقل العام نظراً لانعكاسها الإيجابي على الخزينة العامة، ولا حائل إلا أن تنفذ سريعاً". وتتضمن الخطة شراء باصات وإنشاء شبكة من حوالى21 خطاً لربط أحياء بيروت ببعضها، وإنشاء أنظمة معلوماتية للرصد وتتبع حركة الباصات وربط الشبكات وبناء محطات لوقوفها، وقد حددت بعض المواقع ضمن بيروت وعند مداخلها. وسينشأ نظام النقل السريع لربط بيروت والشمال عبر خط مخصص فقط لحافلات النقل السريع. أما بقية المناطق فيبدو أنها ستنتظر طويلاً قبل أن يجري ربطها ببيروت.

بالتوازي يعدُ نصر بخطة يجري العمل عليها لبناء منظومة متكاملة للنقل المشترك ضمن طرابلس وضواحيها، "وهي نقلة نوعية لبناء منظومة متكاملة ما بين أكبر مدينتين في لبنان تتأثران بأزمة السير المستفحلة". ويظهر حجم الخطط الحاجة إلى موظفين لتشغيل الحافلات الجديدة وإدارتها في ظل قرار الدولة بوقف التوظيف خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن يبدو أن المعنيين وجدوا "فتوى" لملء الوظائف من دون توظيف. ويقول نصر إنهم سيلجأون لتشغيل الحافلات من خلال صياغة عقود للشراكة مع القطاع الخاص في ما يتعلق بالتشغيل فقط.

"السيرة" تبدّد التفاؤل

لكن سيرة "جحش الدولة" ومصيره ومصير الخطط التي أقرت لتفعيل دوره تبدّد التفاؤل، وتنبئ بمصير مشابه لمصير مشروع شراء 250 باصاً والذي لم ينفّذ. خصوصاً وأن قرار وزارة الداخلية بطرح نحو 300 لوحة حمراء جديدة للحافلات الصغيرة و450 لوحة للسيارات، لا يوحي بأن الوزيرة ريا الحسن قد لحظت الخطة، وبأن تنفيذها قريب.

ووسط الترقب، يبدو الأكيد أن لا نية للدولة بوضع حل أشمل لمشكلة المواصلات وما ينجم عنها من أزمات عبر وضع القطار على سكته. في هذا الإطار يؤكد نصر أن المصلحة وضعت خطة لإعادة القطار إلى السكة، وهي قابلة للتنفيذ، لكن العائق يكمن في إيجاد التمويل اللازم لتنفيذها، والذي يقدر بنحو مليارين ونصف المليار دولار. هي قيمة تساوي المبلغ الذي يتكلّفه لبنان سنوياً نتيجة زحمة السير. لكن ربما الأرقام التي تظهرها الحسابات لا تتوافق وحسابات المسؤولين.


MISS 3