مخيّمات العراق... "زهرات" ضحايا الزواج المبكّر

12 : 51

على غرار 23% من العراقيات، تزوّجت نور وياسمين ونسرين وسنا قبل السن القانونية. تتزوج كل فتاة منهنّ من نسيبها أو صديق طفولتها لطمأنة والدتها، أو الحصول على مهر ثمين، أو في حالات كثيرة للهرب من العنف السائد في مخيّم النازحين بعدما أوصلتهم الحرب إليه، أو للتنعم ببعض الهدوء المفقود. تسرد الفتيات تجاربهنّ في سجنهنّ القماشي...

يلعب أولاد بوجوه متسخة بين الشوارع المتعرجة التي ترسمها الخِيَم في مخيّم السلامية للنازحين، جنوب الموصل. يركضون وهم يطلقون صيحات الفرح. كما يحصل يومياً، تقصد أمهاتهم النوافير: إنها عبارة عن ساحة عامة معاصرة حيث يصبح كل عضو في المدينة محط نقاش. تملأ النساء هناك قناني الماء استعداداً للمساء، أو يعزل بعضهنّ نفسه وينشر الغسيل. أما الرجال، فيفضلون الجلوس في الظل طالما الشمس مشرقة. إنه أول يوم من شهر رمضان. في نهاية ذلك اليوم، اجتمعت سنا وبناتها الثلاث وابناها كي يفطروا سوياً تحت لوحة قماشية مستعملة. عادت البنت الكبرى نور (22 عاماً) للعيش مع والدتها منذ اعتقل الجيش العراقي زوجها. وانتقلت الابنة الثانية رغد (17 عاماً) مع زوجها إلى خِيَم أخرى في الموقع نفسه هذا الشتاء. لقد تزوجت منذ خمسة أشهر. في أحد الأيام، رآها محمد في الموصل لدى سيدة من معارفهما المشتركة وطلب الزواج بها. فوافقت بعد ثلاثة أشهر من التردد. منذ تحرير الموصل، في تموز 2017، حضر أكثر من مرشّح واحد لطلب يد الشابة الشجاعة التي تتميز بنظراتها الضاحكة، أولاً في مخيّم حمام العليل ثم في السلامية جنوباً، حيث استقرت العائلة في السنة الماضية.

كان أحدهم مسنّاً جداً، والآخر متزوجاً مرتين قبلها. توضح الأم سنا القلقة على مستقبل بناتها: "كنت الزوجة الرابعة لرجل متقدم في السن ولا أريد أن تعيش بناتي مع زوجات أخريات. رغد لا تزال شابة وستغار النساء منها ويُسببن لها المشاكل". تزوجت نور ورغد قبل سن الرشد. كانت نور تبلغ 15 عاماً: "حين وصل تنظيم "داعش"، سمعنا أن المقاتلين يتزوجون الفتيات بالقوة ويأخذونهنّ بعيداً. لذا فضّلتُ أن تتزوج نور من رجل صالح قبل حصول ذلك. في ما يخص رغد، من الخطير أن تعيش الفتاة بلا رجل في المخيّم. نحن لا نفعل شيئاً في حياتنا اليومية ولا نخرج من خيمتنا إلا لجلب الماء والطعام".

لكن تقصد رغد الموصل من وقتٍ لآخر، وتشعر أحياناً بأنها غريبة وسط عائلة زوجها، لكنها تذهب إلى المطعم دوماً وتخرج مع محمد. كما أنّ مهرها منح عائلتها 1.5 مليون دينار عراقي (1100 يورو). تقول الأم مبتسمة: "لقد اشترينا طعاماً أكلناه وملابس استهلكناها". قد تشتري أي عائلة مماثلة أحياناً القليل من الذهب أو الخواتم أو الأقراط حفاظاً على ثروتها. كانت سنا وأولادها يعيشون في غرب الموصل حين احتل تنظيم "الدولة الإسلامية" المدينة.

في 31 أيار 2017، فيما تابع الجيش العراقي عملياته الهجومية لتحرير آخر الشوارع الضيقة، قامت طائرات التحالف بغارة على حي الزنجيلي حيث تعيش تلك العائلة. فتعرضت سنا لإصابة بالغة في ساقها، وقُتِل حوالى 80 شخصاً. تقول سنا: "كان زوجي مريضاً جداً وأنا مصابة ومنزلنا مُدَمّر. تولّت نور الاعتناء بنا". لا تزال هذه المرأة البالغة من العمر 37 عاماً تحمل آثار إصابتها. منذ ذلك الحين، توفي زوجها ويعمل ابناها وحدهما، وهما في عمر الثامنة والثانية عشرة على التوالي: "هما يبيعان الصابون والماء في سوق النبي يونس في الموصل وعلى جوانب الطرقات. لطالما كان الاطمئنان على وضع الفتيات من أهم أولوياتي. لا أريد أن تعمل بناتي. أنا مستعدة للعمل بنفسي، رغم إصابتي، إذا اضطررنا لذلك".

في حالات كثيرة، يكون الزواج مخرجاً للهرب من المأساة والتحرر من مصاعب الحياة التي خلّفتها الحرب. هذا هو وضع ياسمين. مات والداها حديثاً، وأصيبت إحدى شقيقاتها في قصف خلال عملية الموصل وأصبحت رعايتها مكلفة جداً. لذا قررت الشابة البالغة من العمر 16 عاماً أن تتزوج وتأتي للإقامة في السلامية مع عائلة زوجها كي تتمكن من إعالة أشقائها وشقيقاتها.

%23 من الشابات يتزوّجن قبل سنّ الثامنة عشرة!

تعترف ياسمين بأنها تشعر بالملل في المخيّم، فهي تمضي أيامها داخل الخيمة حيث تغسل الملابس وترتّب المكان. تقول المراهِقة التي لم تعرف في حياتها على ما يبدو إلا الحرب وأجواء المخيّمات: "حين أشاهد أصدقاء طفولتي في الجامعات، أفكر بأنني كنت لأصبح مهندسة أو طبيبة. اليوم، أحب أن أعمل في منظمة إنسانية أو أجد أي عمل آخر للخروج من هذا المكان. يتزوج الناس هنا في عمر الثانية والعشرين تقريباً. لو كان وضع عائلتي مختلفاً، كنت لأنتظر قليلاً قبل الزواج".

زادت حالات زواج الأطفال بكل وضوح في السنوات الأخيرة. فيما يخرج العراق من صراع أربع سنوات مع "داعش" بعد تهجير 1.6 مليون نازح، تتزوج حوالى 23% من الفتيات اليوم قبل عمر الثامنة عشرة، و5% قبل عمر الرابعة عشرة، بحسب قول توم بير كوستا، المتحدث باسم "المجلس النروجي للاجئين في العراق"، منظمة إنسانية مسؤولة عن عدد من المخيمات. يضيف كوستا: "تتزوج 33% من الفتيات اللواتي تركن المدرسة في عمر الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة قبل السن القانونية، مقابل 13% من الفتيات اللواتي أكملن تعليمهنّ حتى المرحلة الثانوية". في بعض الحالات، يحصل اتفاق على الزواج منذ عمر الثامنة أو التاسعة. نسرين فتاة عمرها 15 عاماً وتنحدر في الأصل من سنجار، وكانت تعيش في مخيّم مع والديها بالقرب من بغداد، فتزوجت من ابن عمها فهد: "نحن صديقان منذ فترة طويلة. كنا نلعب معاً في صغرنا. في أحد الأيام، استدعى والد فهد أبي كي يسأله إذا كنت أرغب في الزواج من ابنه".

أنجبت نسرين، صاحبة الوجه الطفولي وراء حجابها الملوّن، طفلاً عمره خمسة أشهر اليوم وخضعت لولادة قصيرية.

بطاقات هوية مزوّرة

بموجب قانون الأحوال الشخصية في العراق، وهو نص من العام 1959، تبلغ السن القانونية للزواج 18عاماً. كذلك، يمنع القانون الزواج القسري، ويفرض قيوداً على تعدد الزوجات، ويضمن حقوقاً فعلية للمرأة والأم عند وقوع الطلاق. يهدف هذا القانون إذاً إلى حماية حقوق المرأة. لكن يسهل حتى الآن أن تتزوج فتاة في الرابعة عشرة من عمرها بحسب قول بسمان، ناشطة في مجال حقوق المرأة في الموصل وعضو في "منظمة مدخل العراق الصحي" غير الحكومية التي تقدم خدمات صحية. تضيف هذه الشابة من مكتبها في غرب الموصل: "تُزوّر العائلات بطاقات الهوية أو تتواطأ مع إمام، ولا أحد يعترض". أو يمكن أن تحصل العائلات على إعفاء لتزويج أولادها بدءاً من عمر الخامسة عشرة إذا حصلت على الإذن من أحد القضاة.

في محاولةٍ لحل هذه المشكلة، يقصد أعضاء المنظمة العائلات لإقناعها برفض الزواج المبكر للفتيات. توضح بسمان: "نحن نخبرهم بأن الولادة في عمر مبكر قد تكون خطيرة جداً، ونشرح لهم أن الفتاة معرّضة للطلاق إذا لم توافق بكامل إرادتها على الزواج، ويمكن أن تجد نفسها وحيدة مع أولادها. تأتي معظم العائلات من الريف، لذا تفتقر إلى المعلومات والتوعية في هذا المجال". تلتزم الحكومة العراقية من جهتها بوضع حد لظاهرة الزواج المبكر بحلول العام 2030، تجاوباً مع أهداف التنمية المستدامة التي أعلنت عنها الأمم المتحدة. لكن تواجه المنظمة مشكلة أخرى تتعلق بزواج الفتيات من مقاتلين في "الدولة الإسلامية". لم تحصل هؤلاء الفتيات يوماً على عقد زواج قانوني ويُجبَرن على نيل عقد مماثل من الحكومة لطلب الطلاق. فتضطر السلطات حينها للتأكد من وفاة الزوج أو اعتقاله أو اختفائه، وقد تتطلب هذه الإجراءات سنوات طويلة.

تزوجت أمل، أصلها من الموصل، في العام 2014 في عمر الرابعة عشرة: "كانت عمّتي تخبرني بأن الزواج أفضل خيار لي وأنني سأعيش في منزل جميل. لم أكن موافقة بل أردتُ متابعة تعليمي. لكني قبلتُ في نهاية المطاف". طلبت أمل الطلاق بعد سنتين، ثم انضم زوجها إلى صفوف "الدولة الإسلامية" بعد فترة قصيرة. لكنه اعتُقِل لاحقاً على يد القوات العراقية ووُضِع في سجن الفيصلية، بالقرب من الموصل. أنجبت هذه الشابة التي تبلغ اليوم 18 عاماً طفلاً عمره سنتان ويعيش راهناً مع عائلة زوجها. تجد أمل صعوبة في الحصول على الأوراق التي تثبت أنها مطلّقة، وتعيش وحدها مع والدتها في خيمة ولا تخرج منها إلا في حالات نادرة. تقول أمّها: "عند نشوب خلافات على الماء في الساحة، تُسمِعها نساء أخريات عبارات مثل "حتى أنها بلا زوج"!

قبل الحرب، تعترف سنا بأنها كانت تعيش حياةً بسيطة مع زوجها. أما اليوم، فلا تتمنى العودة إلى الموصل مطلقاً: "هم يقدمون لنا الماء والرز والطحين هنا"! لكنها تتمنى أن تتمكن ابنتها الثالثة ساميا (7 سنوات) من التعلم. مع هبوط الليل، تُشغّل سنا ونور وساميا جهاز تلفزيون يغطّيه الغبار ويقع وسط أكوام الملابس. تجلس الفتيات في خيمتهنّ مساءً لمشاهدة المسلسل الهندي Vaidehi الذي يعرض قصة أمير وأميرة من القرن الواحد والعشرين. إنها لحظات جميلة بعيداً من هموم الحياة اليومية...


MISS 3