في عالم الأدب، قلّما نلتقي كاتباً يجمع بين الإبداع السَّردي العميق والانخراط الحاد في السياسة والفكر، كما فعل ماريو فارغاس يوسا، الذي ودّع الحياة في 13 نيسان الجاري عن 89 عاماً، فأنهى برحيله فصلاً مذهلاً من فصول الأدب اللاتيني، تاركاً وراءه إرثاً لا يُمحى. في صباح بعيد من العام 1936، وُلد طفل في مدينة أريكيبا البيروفية، لم يكن يدري أنّ اسمه سيصير، بعد عقود، مرادفاً للتمرّد الجميل على الأب والسلطة، على التقاليد والسكون، على كل ما يُفرض من دون مساءلة. هو ماريو فارغاس يوسا، الذي لم يكتفِ بكتابة الروايات بل صاغ تاريخاً موازياً لأميركا اللاتينية بحبرٍ من النار والأسى.
نشأ يوسا في كنف والدته متنقِّلاً بين البيرو وبوليفيا، في غياب والده العسكري الذي عاد فجأة إلى المشهد الأسري بعد غياب دام عشرة أعوام. أثّر هذا الأب السلطوي والعنيف بعمق في شخصية ماريو الطفل، حتى أنّ أولى بذور التمرّد تشكّلت عنده كردّ فعل على هذا الطغيان الأبوي. فهو قال في إحدى مقابلاته: «قبل أن أختبر الاستبداد السياسي، كنت قد عشت استبداد والدي، وما كنت لأصبح كاتباً لولا عداؤه لطموحي».
المدرسة المعتقل
كانت المدرسة العسكرية التي التحق بها في سن الرابعة عشرة أشبه بمعتقل، لكنها شكّلت سخّاناً أدبياً أسهم في إنضاج أولى رواياته «المدينة والكلاب» (1963)، والتي انتقد فيها القمع داخل المؤسسة العسكرية، فكانت فضيحة وطنية، كشفت زيف التعليم العسكري، وأثارت من الجدل ما دفع الجيش لحرق ألف نسخة منها، لكنّ الكاتب كان قد خرج من القفص، وبدأ طيرانه الحرّ في سماء الأدب العالمي.
من «البيت الأخضر» إلى «حديث في الكاتدرائية»، من «حرب نهاية العالم» إلى «العمّة جوليا والكاتب المبتدئ»، ظلّ يوسا يصوغ رواياته كما لو أنّه ينقّب في جمجمة القارة المأزومة، باحثاً عن معنى وسط الفوضى، عن إنسان بين الأنقاض، فهو القائل: «الأدب ليس ترفاً، بل ضرورة. إنه تمرين على الحرّية». لذلك لم تكن رواياته ترفاً فكرياً، بل نضالاً داخلياً وخارجياً ضد السلطة، ضد القمع، وضد انكسارات الروح.
الانفجار الأدبي
في ستينات القرن الماضي، كان ماريو فارغاس يوسا أحد أعمدة ما يُعرف بـ «الانفجار الأدبي اللاتيني»، إلى جانب كتّاب مثل غابرييل غارسيا ماركيز وخوليو كورتاثار. تميّزت رواياته ببنية سردية معقّدة، وتعدّد في الأصوات، وتحليل سيكولوجي واجتماعي عميق، واستلهام لأساليب وليم فوكنر وغوستاف فلوبير وجان بول سارتر.
لكن أن يُدوّن كاتب عن السلطة، شيء، وأن يدخلها بنفسه، شيء آخر. ففي لحظة ما من حياته، دخل يوسا إلى عالم السياسة من بابه العريض. في بداياته كان يسارياً، لكنه تدريجاً أصبح مدافعاً عن الليبرالية الاقتصادية والسياسية بعد منتصف الثمانينات، عندما عارض بشدة تأميم المصارف في العام 1987، وترشّح لرئاسة البيرو في العام 1990، إلا أنه خسر أمام ألبرتو فوجيموري، وتحوّل يوسا إلى أبرز الأصوات المدافعة عن الديمقراطية والمنتقدة للأنظمة السلطوية في أميركا اللاتينية، ما جعله صوتاً مثيراً للجدل في الساحة الفكرية، مؤيّداً في بعض مواقفه لليمين المتطرّف، متجاوزاً حدود توقعات كثر من قرّائه الذين عشقوا ثوريّته الأولى. خسر المعركة، لكنه ربح وعياً أعمق بما تفعله السياسة بالإنسان، كما قال لاحقاً: «السياسة كشفت لي أسوأ ما في البشر».
صداقة تنكسر
كان صديقاً لغابرييل غارسيا ماركيز، ذلك الساحر الكولومبي، حتى جاء العام 1976، حين انقلبت الصداقة إلى لكمات. لكمه يوسا أمام جمهور سينمائي في المكسيك، قائلاً له: «هذه لما فعلته مع باتريسيا» (اسم زوجته الثانية). واختفت العلاقة، كما تختفي شخصيات من رواية لم تكتمل، بلا تفسير واضح، ودون نهاية أدبية تليق بما كان بينهما.
ماريو فارغاس يوسا الأديب لم يكتفِ بأن يكون بطلاً على صفحات الروايات، بل جعل من حياته الخاصة نصّاً مفتوحاً يمشي على الأرض، كان يعيش دائماً بشغف لا يقل عن ذلك الذي يكتبه. حياته العاطفية لم تكن مجرّد تفاصيل هامشية، بل كانت في صلب تجربته الإبداعية، جزءاً لا يتجزأ من مسيرته كروائي يرى في الحياة نفسها خامة للكتابة. علاقاته بزوجتَيه وحبيبته لم تكن مجرّد محطات، بل تحوّلات درامية حملت في طيّاتها انعكاسات فكرية، صراعات داخلية، واختبارات للقلب والعقل معاً.
زوجتان وحبيبة
في بداياته، وقع يوسا في حب جوليا أوركيديا، المرأة التي كانت تكبره بعشر سنوات، والمفارقة أنها كانت من عائلته (ابنة عمّ والدته). لم يكن حبّهما سهلاً ولا تقليدياً، بل كان على الضدّ من كل ما يُتوقّع. هذا التمرّد العاطفي ألهمه لاحقاً كتابة روايته «العمة جوليا وكاتب السيناريو»، التي تحوّل فيها الواقع إلى أدب مدهش ساخر، واستحضر فيها قصة شاب يافع يقع في حبّ قريبة له تكبره سناً، في تحدٍ واضح للتقاليد ولما تفرضه العائلة من قيود. هذه التجربة الأولى، ورغم نهايتها المؤلمة بالطلاق، كانت لحظة تأسيس فارقة في تشكّل وعيه ككاتب، بل يمكن القول إنها حددت شكل العلاقة التي سيقيمها مع المرأة والحب والحرية.
ابنة خاله وظلّه
ثم جاءت باتريسيا يوسا، ابنة خاله، التي تزوّجها بعد انفصاله عن جوليا، وكأنّ القدر يعيده إلى الدائرة العائلية من جديد. لكن هذه المرّة في علاقة أكثر تماسكاً واستقراراً، استمرت نحو خمسين عاماً. كانت باتريسيا رفيقته في الصعود، وصوته الخلفي في أروقة الكتابة، ظلّها الحاضر الذي دعم مسيرته خطوة بخطوة، من بداياته المتعثّرة حتى تتويجه بـ «جائزة نوبل». خلال هذه الفترة، تحوّلت كتاباته من السَّرد الشخصي إلى الغوص في أعماق السياسة والتاريخ والمجتمع، فكتب «حفلة التيس»، و «حرب نهاية العالم»، وغيرهما من أعمال تعكس رؤيته للسلطة والطغيان، من دون أن تغيب فيها ملامح المرأة الحازمة، الحكيمة، الشريكة، والتي لم تكن مجرّد ملهمة عابرة، بل مرآة لصراعه الداخلي بين الطموح والحب، بين الالتزام والانفلات.
لكن بعد نصف قرن من هذا التماسك، جاء الطلاق في العام 2015، ليُحدث صدمة في الوسطين الأدبي والاجتماعي.
الحبيبة والترف
وهكذا فُتح الباب أمام فصل جديد وغريب في حياة يوسا، فكانت علاقته بإيزابيل بريسلر، الإعلامية الجميلة التي تنتمي إلى عالم مختلف تماماً عن عالم الأدب (سبق أن تزوّجت ثلاث مرات، ومن بين أزواجها المغني الإسباني الشهير خوليو إيغليزياس). معها، غادر يوسا دائرة الانعزال النخبوي نحو أضواء الشهرة، وصار جزءاً من عالم المشاهير، يظهر في المجلات، يحضر المناسبات، يعيش حياة مترفة غير مألوفة لمن قرأ كتبه عن فقراء أميركا اللاتينية والثوار والمثقّفين.
هذه العلاقة، التي أثارت الجدل بقدر ما أثارت الاهتمام، انتهت بعد سنوات قليلة، لكنها كانت كاشفة لنزعة عميقة لدى يوسا، نزعة البحث عن ذات جديدة، وربما عن حياة مؤجّلة كان يتوق لتجريبها خارج قوالب الانضباط والزواج الطويل.
الحب كما الكتابة
رواياته، كما حياته، لا تخجل من التداخل بين الخاص والعام، بين الحب والتاريخ، بين الشخصي والسياسي. والنساء في حياته لم يكنّ مجرّد حبيبات أو زوجات، بل كنَّ رموزاً لمراحل فكرية وعاطفية وأدبية مرّ بها.
جوليا كانت شرارة التمرّد، وباتريسيا ركيزة البناء، أما إيزابيل فكانت علامة على التحوّل، وربما محاولة التحرّر من كل ما سبقه. وما يميّز يوسا حقاً هو أنه لم يخفِ شيئاً من هذا التداخل، بل جعله جزءاً من مشروعه الإبداعي. الحبّ عنده ليس موضوعاً بسيطاً، بل ساحة صراع، امتحاناً للهوية، طريقاً للحرية، وأحياناً عبئاً ثقيلاً يُحتمَل بشغف وبكثير من التناقض.
هكذا عاش ماريو فارغاس يوسا الحبّ كما يكتب، ويكتب كما يحبّ. حياته لا تقل روائيّةً عن رواياته، وكلّ تجربة عاطفية مرّ بها كانت فصلاً آخر من فصول البحث عن الذات، عن معنى أن تكون إنساناً يقف بين الواقع والخيال، يحاول أن يعيش الحقيقة، ثم يعيد خلقها بالكلمات.
في سنواته الأخيرة، واجه يوسا مضاعفات صحّية بسبب «كوفيد-19»، كما عانى من ضعف في الذاكرة وعلامات التقدّم في السن. مع ذلك، لم يتوقف عن الكتابة، وكان آخر أعماله رواية «الرياح» (2023)، وهي عمل تأمّلي عن الشيخوخة والتيه الذهني.
إرث لا يموت
ماريو فارغاس يوسا لم يكن مجرّد روائي. كان مفكّراً، ومقاتلاً سياسياً، وناقداً ثقافياً، وشاهداً على تقلّبات قرن كامل من التاريخ الأميركي اللاتيني. من قاعات الأدب إلى دهاليز السياسة، ومن باريس إلى ليما، ومن الرواية إلى المقالة والمسرح، ترك وراءه أكثر من ثلاثين عملاً سيبقى يُقرأ ويُدرّس لأجيال طويلة. هو، ببساطة، كاتب حرّ، عنيد، ومثير للجدل، تماماً كما الأدباء العظماء.