في مشهد أعاد للأذهان بدايات الحرب الروسية الأوكرانية، اجتمع مسؤولون رفيعو المستوى من الجانبين الأوكراني والروسي يوم أمس الجمعة، في مدينة إسطنبول التركية، في أول لقاء رسمي مباشر منذ انهيار محادثات السلام في عام 2022. ورغم الترقب الإقليمي والدولي لما قد تسفر عنه هذه الجولة الجديدة، إلا أن النتائج جاءت محدودة، وسط تعقيدات سياسية وميدانية لا تزال تلقي بظلالها على المشهد.
منذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، دخلت الأزمة الأوكرانية منعطفات عدة، اتسمت معظمها بالتصعيد العسكري، وتدهور الأوضاع الإنسانية، وتوسع نطاق التوتر بين روسيا والغرب. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المتكررة التي بذلتها أطراف عدة، أبرزها تركيا، الصين، ودول الاتحاد الأوروبي، إلا أن أياً منها لم ينجح في جمع الطرفين على طاولة واحدة كما حدث في إسطنبول أمس.
وجاء اللقاء وسط مؤشرات على "إرهاق الحرب"، ليس فقط على المستوى العسكري، بل أيضاً من الناحية الاقتصادية والسياسية، ما دفع مراقبين إلى اعتبار هذه الجولة من المحادثات بمثابة "اختبار جدي" لإرادة الطرفين في إنهاء الحرب، أو على الأقل، التمهيد لمرحلة تهدئة.
تفاصيل جلسة إسطنبول: لقاء قصير وطموحات محدودة
انطلقت المحادثات صباح الجمعة في قصر "دولما بهجة" التاريخي بمدينة إسطنبول، بمشاركة وفد روسي ترأسه مستشار الكرملين فلاديمير ميدينسكي، ووفد أوكراني قاده وزير الدفاع رستم عمروف. واستغرقت الجلسة أقل من ساعتين، ما أثار تساؤلات حول مدى الجدية والطموح السياسي لكلا الطرفين.
الإنجاز الوحيد الذي خرجت به المفاوضات تمثّل في اتفاق الجانبين على تنفيذ أكبر صفقة تبادل أسرى منذ بداية الحرب، تشمل إطلاق سراح 1000 أسير من كل طرف. ورغم أهمية هذا التطور من الناحية الإنسانية، إلا أنه قوبل بفتور على المستوى السياسي، حيث لم يتضمن أي التزامات بشأن وقف إطلاق النار أو خطوات نحو تسوية شاملة.
المطالب المتبادلة: سقوف عالية وانعدام للمرونة
طالبت موسكو بانسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي أعلنت روسيا ضمها رسميًا (دونيتسك، لوهانسك، زابوريجيا، وخيرسون)، كشرط مسبق لأي نقاش حول وقف إطلاق النار. كما شدد الوفد الروسي على أن "الحقائق على الأرض لا يمكن تجاهلها"، في إشارة إلى المكاسب الإقليمية التي حققتها القوات الروسية خلال العامين الماضيين، ايضا شهدت الجلسة مواقف روسية مستفزك عندما تحدث رئيس الوفد الروسي ميدنيسكي الذي قال انه روسيا لا تريد الحرب لكنها مستعدة للقتال لسنوات، واضاف انه جانب من الحضور سيخسر اعزاء لهم بسبب استمرار الحرب وان روسيا تقاتل على ٤ مقاطعات وتستطيع ان تحتل أيضاً مقاطعة او اثنين، ملمحاً الى مقاطعتيْ خاركيف وسومي.
أما الجانب الأوكراني فأصر على ضرورة تنفيذ وقف إطلاق نار فوري لمدة 30 يوماً، كخطوة تمهيدية لأي اتفاق سلام، مع التأكيد على أن "وحدة الأراضي الأوكرانية غير قابلة للتفاوض". كما أعرب الوفد الأوكراني عن خيبة أمله من مستوى التمثيل الروسي، معتبراً أن غياب الرئيس بوتين "إشارة سلبية" تشكك في نوايا موسكو، وطالب بعقد لقاء بين زيلينسكي وبوتين.
ردود الفعل الدولية: بين الترحيب الحذر والتحذير من الفشل
أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أمله في أن تكون هذه الجولة "نقطة انطلاق حقيقية نحو السلام"، مؤكدًا أن بلاده "مستمرة في لعب دور الوسيط النزيه". وأشار إلى إمكانية عقد جولة ثانية خلال الأسابيع المقبلة، إذا أبدى الطرفان مرونة.
تزامناً مع لقاء إسطنبول عقد لقاء مهم في العاصمة الألبانية تيرانا، ضمن قمة "المجتمع السياسي الأوروبي"، جمع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع عدد من القادة الأوروبيين، من بينهم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس وزراء بولندا دونالد توسك.
أجمع القادة الأوروبيون وزيلينسكي على أن موقف روسيا في مفاوضات السلام التي عُقدت في إسطنبول "غير مقبول"، خاصة بعد رفض موسكو مقترح وقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا، ومطالبتها بانسحاب القوات الأوكرانية من الأراضي التي تحتلها، واعتبروا ان روسيا أخطأت بارسال وفد من الصف الثاني، مؤمدين ان الكرة الآن في ملعب روسيا لاثبات حديتها في انهاء هذه الحرب.
وخلال المؤتمر أجرى القادة الأوروبيون اتصالا هاتفياً مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث تم بحث إمكانية توحيد المواقف بشأن الرد على تعنت روسيا، مع إمكانية فرض حزمة عقوبات جديدة تشمل قطاعات الطاقة والمالية الروسية.
وأكد زيلينسكي على ضرورة عقد لقاء مباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشددًا على أن أوكرانيا مستعدة للسلام، لكنها ترفض أي شروط تمس سيادتها.
كما أعرب القادة الأوروبيون عن دعمهم الثابت لأوكرانيا، وأكدوا على أهمية استمرار الضغط الدولي على روسيا لتحقيق تقدم في مسار السلام.
يأتي هذا اللقاء في إطار الجهود الدولية المتواصلة لإنهاء الصراع في أوكرانيا، وسط تعنت روسي وتأكيد أوكراني على ضرورة احترام سيادتها ووحدة أراضيها.
وجددت الصين والفاتيكان دعوتهما لوقف الحرب والعودة إلى طاولة الحوار، مشيرين إلى الأثر الإنساني الكارثي للنزاع، خصوصاً مع دخول الشتاء واقتراب أزمة غذاء في بعض مناطق أوكرانيا.
ضربة روسية جديدة في الشمال الشرقي الأوكراني
في خطوة تقوض الأجواء الإيجابية النسبية التي سبقت المفاوضات، شنّت روسيا هجوماً بطائرات مسيّرة على مدينة بيلوبليا في منطقة سومي، شمال شرق أوكرانيا، ما أدى إلى مقتل تسعة مدنيين وإصابة سبعة آخرين، بينهم أطفال. واعتبرت كييف أن هذا الهجوم "رسالة واضحة بأن موسكو ليست جادة في مساعي السلام".
هل يلتقي زيلينسكي وبوتين وجها لوجه؟
أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن استعداده للقاء مباشر مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، قائلاً: "القرارات الكبرى لا تُتخذ في الغرف الخلفية بل على مستوى القادة". وردّ الكرملين بإيجاز، قائلاً إنه "سيدرس الاقتراح"، دون تحديد موقف واضح.
بهذه الطريقة وضع الرئيس فلاديمير زيلينسكي الكرة في ملعب صاحب الكريملين الذي يحاول الالتفاف على المبادرة الأمريكية لإنهاء الصراع بين الدولتين الجارتين والهروب من الصدام المباشر مع دونالد ترامب، فزيلينسكي الذي كان يرفض أي حوار مباشر بين روسيا وأوكرانيا ويعتبر أن فلاديمير بوتين هو مجرم العصر أصبح مستعد للجلوس على طاولة واحدة مع الرئيس الروسي وذلك لإثبات نيته في إنهاء هذه الحرب وكسب ود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بدوره كان يعتبر أن أوكرانيا تتهرب من السلام بينما بدأت الصورة الحقيقية تتضح بأن روسيا لا تزال على موقفها الثابت والرافض لإنهاء هذه الحرب إلا بشروطها التي تعتبرها أوكرانيا شروط هزيمة واستسلام.
رغم محدودية النتائج، إلا أن مجرد انعقاد الجلسة بين الجانبين بعد أكثر من ثلاث سنوات من القطيعة الدبلوماسية، يُعد خطوة مهمة بحد ذاته. لكن استمرار الخلافات الجوهرية حول مستقبل الأراضي المحتلة، وهوية الدولة الأوكرانية، وتركيبة الأمن الإقليمي، يجعل أي اتفاق دائم يبدو بعيد المنال في المدى القريب.
مع ذلك، فإن استئناف الحوار، مهما كان هشاً، قد يشكل أرضية يُبنى عليها لاحقاً، خصوصاً إذا تصاعد الضغط الدولي، واستمر الإنهاك الاقتصادي والعسكري في تقليص هامش المناورة لدى الجانبين.