مريم سيف الدين

من جبهة "قره باغ" إلى "كورونا"

24 تشرين الأول 2020

02 : 00

لم يمنعني عن الذهاب إلى ساحة الحرب مع زملاء في المهنة لا القصف ولا الأخبار التي كانت تصلنا من إقليم ناغورني قره باغ عن قساوة المعارك هناك. وحدها "كورونا" غافلتني واستدرجتني إلى معركة معها، وكأنّها شاءت أن تثبت بأنها أشدّ فتكاً من القصف، أو أكثر قدرة على سجن الأفراد.

باندفاع صحافية تريد اختبار المهنة بكلّ تجاربها واحتمالاتها، أخذت قراري. في الليلة التي سبقت موعد المغامرة المنتظرة، لم ينم المسؤولون عني في الجريدة. خوفٌ من احتمال أن يصيبني مكروه واتصالات تدعونني للتفكير مجدداً بقراري. اندفاعة يدركها جيداً رئيس التحرير، حاول كبحها بمزيدٍ من التعقّل، "فسلامة طاقم الجريدة أولوية تفوق أيّ خبر". من وحي العيش في لبنان جاءت إجابتي، فهنا في بلدنا يتربّص بنا الموت عند كلّ مفترق، وقد يكون أقرب إلى منزلنا من ساحة الحرب، أو لم يكن هذا الدرس الذي لقّننا إياه تفجير الرابع من آب؟!

نمت على رغبة بعدم إرسالي إلى ساحة المعركة. خبت قليلاً. لم أكمل توضيب أمتعتي. واستيقظتُ بعد حينٍ على خبر سعيد بالسماح لي بالذهاب، إن شئت، بعد وعود بالحرص على سلامتي تلقّاها المسؤولون عني. إلى أرمينيا ومنها إلى قره باغ كانت خريطة الرحلة. وإلى هناك شخصت مخيلتي. ما الذي سنراه؟ ما القصص التي تختبئ خلف شاشات الأخبار؟ كيف سيستقبلنا سكان الأرض؟ استذكر ما عشناه من حروب وكيف كنا نريد للإعلام الأجنبي أن يأتي إلينا ويصوّر معاناتنا، لينقلها إلى العالم علّ رأياً أجنبياً ينصرنا. أتأمّل ذاتي التي تحوّلت بعض أملٍ لشعبٍ آخر. أفكر بلذّة التجربة، بطباع الانسان التي تدفعه لخوض حروبٍ حتى الرمق الأخير.

وصلنا مطار يريفان العاصمة الأرمينية. إنّه زمنٌ يصارع فيه العالم وباء "كورونا". في المطار عليك أن تخضع لفحصٍ يؤكّد أن الفيروس لم يتسلل إليك. بعد خروجنا من المطار، تبلّغت أنّني وحدي دون بقية أفراد الفريق الإعلامي مَن تمكّن "كورونا" من اختراق أسوارها. فاجأني الخبر، جعلني ابتعد بسرعةٍ عن الآخرين. كأنّي كنتُ الوباء بعينه. يحاولون مواساتي فلا أجيب. أخاطب نفسي بأنّ الفيروس الخفيّ تمكّن مني. لم يرعبني كما فعل بغيري. لقد تمكّن منّي. ليس بإنهاكه جسدي وإشعاري بإرهاقٍ شديد وببعض الأوجاع، ولا بقمع بعض حواسي، بل عندما قمع شغفي الصحافيّ واندفاعي لتجربة جديدة، ساجناً إيّاي بين جدران شقة صغيرة في بلد جئت أكتشف شوارعه وناسه وكلّ ما أمكن فيه. على جبهة "كورونا" جلست في حجري أقاوم بحسرةٍ فيروساً واثقة بقدرة جسدي على الانتصار عليه، معترفةً له بانتصاره عليّ بالتوقيت وكأنّ من خصائصه كذلك أن ينفّذ المؤامرات.

"هل يمكنني النزول إلى الشارع؟ أعد بعدم الاقتراب من الناس"، أسأل. يوصيني الزملاء بالتزام الحجر. لسنا في لبنان. لا سواح هنا في هذا العام بحكم كورونا، ما يصعب مهمّة التسلّل إلى الشارع. التزمت بالتمنّي. لم أغادر "زنزانتي". لا خوفاً من المتاعب، بل خوفاً من مساهمتي في نقل الفيروس الى الاخرين، فأنا وبالرغم من قساوة قلمي، شخصٌ مسالم لا يحبّ التسبّب بمتاعب للآخرين، بل يهمّني فضح من يتسبّب بها فحسب، أو هذا ما أدّعيه على الأقل. "خدني حجرني بأرض لبنان"، أدندن برأسي. هناك يكون حجري أكثر حريّة. أقلّه أضمن حريتي بأن أقود سيارتي وأجول فيها بدل سجني هذا.

أجلس وحيدةً. لا أرى من سجني أحداً باستثناء امرأة أرمنية ستينيّة تعمل في المكان. تعلم بحالتي، فقد أوكلت الاهتمام بي. تحضر لي ما أطلبه من العالم الخارجي الذي مُنعت من الخروج إليه. عالم أراقب ما استطعتُ منه من شرفةٍ. تغدو السيدة وسيطاً بيني وبينه. نتواصل من دون أن نفهم لغة بعضنا. تتصّل أحياناً بوسيطٍ يقوم مقام المترجم. أتجنّب رؤيتها أكثر من مرة في اليوم، فلا أتطلب كثيراً. إن اقتربت مني أبتعد. أقلق. هل نقلت إليها العدوى؟ كيف أتأكّد بعد رحيلي بأنّي لم أفعل؟ أحياناً تدخل الشقة. تضع الأغراض سريعاً. تغادر كمن يرمي الطعام في قفص وحش مفترس.

لا تطلّ شرفتي على قصصٍ مثيرة. فالوباء الذي جعلني أقف عند حافتها أفرغ الشارع من قصصه وأفرغ المقاهي المقابلة. يقترحون عليّ كتابة قصتي، تجربتك فريدة يقولون. أتساءل: كم من قصة فريدة كتبها الوباء؟ كم من مؤامرة نفّذها منتصراً على آمال البشر وطموحاتهم؟!


MISS 3