د. ميشال الشماعي

كسْرُ الإطارِ أو كسْرُ الوطنِ

28 تشرين الثاني 2020

02 : 00

تبدو الأزمة اللبنانيّة اليوم في أوجّها، إذ بات المجتمع اللبناني برمّته في حالات انقسامية مختلفة الإتّجاهات، لكنّ الإنقسامين الأكبرين هما بين الفكر العلماني والفكر الديني. صحيح أنّنا في الألفية الثالثة، لكن ما يلفت أنّ بعض اللبنانيين، وبعد مئة سنة من عمر لبنان الكبير، لا يرون في هذا الوطن ما يشبههم. فهل سيستطيع اللبنانيون تحقيق الوطن الذي يشبه أبناءه جميعهم؟ ولماذا هذا الإنقسام الذي ما استطاع اللبنانيون بعد أن يذوّبوه في وطن يشبههم؟ وما هي معايير الوحدة والإتّحاد التي قد تحقّق ما لم يحقّقه لبنان الكبير؟

قبل البحث في شكل الوطن، يجب التأكيد على ثبات الكيان اللبناني. فالكيانية اللبنانية هي من الثوابت. والمشروع الواضح لـ"حزب الله" اليوم في ضربها بالإحتفاظ بجيشه وسلاحه غير الشرعيين بعد الطائف، رافضاً تنفيذ بند حلّ الميليشيات تحت ذرائع متعدّدة، كما قال البطريرك الراعي"لم نفهمها حتّى اليوم"؛ إضافة إلى إنشائه نظاميه المالي والإقتصادي الرديفين لنظام الدولة اللبنانية، حتّى بات هو نفسه يتحكّم بسعر صرف الدولار، بواسطة شبكة من الصرّافين غير الشرعيين الذين يديرهم. هذا المشروع لن يمرّ. إضافة إلى بعض المشاريع الواهية باستعادة المجد العثماني والخلافة العربية، كذلك لن تمرّ.

فلا بدّ هنا من الإستفادة من تجربة المجموعة الحضارية المسيحية، التي رفضت إبّان الحرب إعلان دولتها من كفرشيما إلى المدفون، حيث كان بمقدورها ذلك، محلياً وباعتراف دولي؛ بل سلّمت شرعيتها التي حصّنتها بمقاومتها اللبنانية حيث حَمَت ما تبقى من مؤسّسات للدولة، وسلّمت مقدّراتها كلّها للدولة اللبنانية على أمل بنائها بحسب ما ورد في اتفاق الطائف. وهذا ما عايرها بعضهم به بعد مرور ثلاثة عقود، وقد أثبت التّاريخ صوابية قرار هذه المجموعة، وأعني هنا بالتحديد "القوّات اللبنانية". فانخرطت في العمل السياسي بغضّ النظر عن الإضطهاد الذي قاومته بروحها المقاومة طيلة خمس عشرة سنة، حتّى باتت هي نفسها أنموذج "الجمهورية القويّة".

وذلك لَما كان يحدث لولا اقتناع هذه المجموعة الحضارية بأنّ لبنان الكياني بالـ 10452كم² هو لبنان الذي نريده. من هنا، على اللبنانيّين كلّهم الإقتداء بهذا النّهج، والإقتناع بأنّ لا لبنان إلّا لبنان الكيانيّ الذي يشبه أبناءه جميعهم. وأيّ بُعد أيديولوجي يطفو اليوم، سيتحوّل عبئاً على أيّ مجموعة في حال دخل في المنظومة العالمية التي تعولمت بتعولُمِ الحضارات، حيث أصبح الإنسان ببعده الإنساني فقط هو مِحور الوجود. عدا ذلك، لن يكتب لأيّ لبنان الحظّ في الوجود، أو حتّى للبنان الذي يعيش على خلافات مجموعاته الحضاريّة.

فعلى حدّ ما قال اللاهوتي السويسري هانس كينغ في مقدّمة كتابه: مشروع أخلاقي عالمي، 1998: "لا حظّ لهذا العالم الذي نعيش فيه، في الاستمرارية طالما هناك تجمّعات أخلاقية مختلفة ومتناقضة بل متحاربة. هذا العالم الواحد يحتاج إلى أخلاق واحدة. لا شكّ في أنّ المجتمع العالمي الفريد لا يستدعي ديانة أو أيديولوجيّة موحّدة، بل بعض القواعد والقيم والمُثل والأهداف التي توحّد البشر وتلزمهم".

نلج القضية اللبنانية من هذا الباب بالتحديد. فلسنا بحاجة لخلق دين واحد للدولة اللبنانية، ولا بأسلمتها أو مسحنتها. نحن بحاجة إلى أخلاق وطنية واحدة منطلقة من قيم، وثوابت ومبادئ، توحّد اللبنانيّين جميعهم، منطلقها احترام خصوصيات المجموعات الحضارية بعضها لبعض. ومن دون أيّ ارتباط مع أيّ خارج، وهذا ما نصّ عليه الميثاق والوفاق؛ لذلك لا مشروع أخلاقياً سوى الحياد الناشط والإيجابي والفاعل في العالم ومحيطه يفيد اللبنانيّين جميعهم. وليبقوا "جميعهم معاً" يجب أن يشكّلوا اتّحاداً في ما بينهم لأنّ في الإتّحاد قوّة. وهنا ستكمن قوّة لبنان الغد، في اتّحاده وحياده، لأنّ عالمنا اليوم بات نقيض تزمّت فئاته وانغلاقها واتّخاذها معيار العزلة والإنطوائية مبرّراً لوجودها.

ولدحض هذه النظرية، يجب العمل بجهد لبناني كياني مشترك بين اللبنانيين جميعهم، على بلورة قيم الدولة الجديدة التي نريدها لأولادنا وأحفادنا من بعدنا، وذلك بروحنة الأنسنة Humanization Spirit في الإنسان اللبناني، وإبعاده عن التشيّؤ الطائفي Sectarianism، وذلك للتوصّل إلى تعزيز قيم العدالة والمساواة تمهيداً لحوار موضوعي، على قاعدة أنّ لا حوار مع تفوّق مسلّح، حتّى التوصّل إلى الإعتراف بالآخر المختلِف في إطار اتحادي – حيادي، لنستطيع عملياً إزالة كلّ أشكال التمييز الكياني والحفاظ على التمايُز الكياني في إطار الوطن الإتحادي المحايد. وعدا ذلك كلّه، يبقى ضمن إطار البحث في جنس الملائكة. فهل سيُكْسَرُ هذا الإطار قبل أن ينكسِرَ الوطن؟


MISS 3