عشر سنوات على "الربيع العربي"...هل تتجدّد الثورة؟

02 : 01

في 17 كانون الأول 2010، أحرق محمد البوعزيزي نفسه في وسط بلدة سيدي بو سعيد التونسية. وبعد بقائه في المستشفى لأكثر من أسبوعَين، استسلم أخيراً للجروح التي ألحقها بنفسه. حين كان ممدّداً على سرير المستشفى، انطلقت احتجاجات شعبية نحو العاصمة التونسية وأدت في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام زين العابدين بن علي المخيف والفاسد والقائم منذ 24 سنة، فسافر هذا الأخير إلى المملكة العربية السعودية في 15 كانون الثاني 2011.

ما كان يُفترض أن يسقط بن علي ولا الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. وما كان يُفترض أن يهرب الرئيس الليبي معمر القذافي من طرابلس. كذلك، كان يُفترض أن يتقن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح فن التلاعب بالسياسة اليمنية بالشكل الذي كانت عليه. وكان يُفترض أن يحافظ نظام الأسد على تماسك سوريا. كانت الأحداث في نهاية العام 2010 وعلى مر العام 2011 استثنائية بمعنى الكلمة وغير متوقعة بأي شكل، بالنسبة إلى معظم الغربيين على الأقل، وهذا ما دفع الصحافيين والمحللين والمسؤولين إلى إطلاق اسم "الربيع العربي" على تلك التطورات مُجتمعةً. كان ذلك الاسم شاعرياً بدرجة معينة، لكنه افترض ضمناً نتيجةً بدت في تلك الأيام الأولى غير مؤكدة، بغض النظر عن الطابع الصادم الذي ترافق مع الانتفاضات المتلاحقة.

اليوم، بعد مرور عشر سنوات على تلك الأحداث، ما هو المعنى الذي يمكن إعطاؤه لتلك الانتفاضات؟ تكثر المقالات التي تتكلم عن تحوّل "الربيع" العربي إلى "شتاء"، لكن قد يكون هذا التقييم سابقاً لأوانه. في النهاية، سُحِق "ربيع براغ" بطريقة وحشية في الماضي، لكن عاد التشيك والسلوفاك وأسقطوا الحُكم الشيوعي بعد مرور عقدَين من الزمن. عكست الفكرة القائلة إن الانتفاضات في الشرق الأوسط تُمهّد لنجاح مستقبلي مؤكّد موقفاً شائباً للناشطين والمحللين على حد سواء. ربما كان شتاء وربيع 2010-2011 مقدّمة لتغيير قادر على إسقاط الحكام المستبدين في المنطقة بوتيرة تدريجية لكن حتميـــــة، ما يُمهّد لترسيـــخ سياسات ديموقراطية حقيقية. لكن لا يمكن استبعاد حصول العكس مجدداً.

تبدّلت معطيات كثيرة في الشرق الأوسط منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه، فقد غيّرت الانتفاضات الخطاب السائد في المنطقة وأثبتت أن مراكز السلطة ليست هشة وأجّجت طموحات الناس بعيش مستقبل أفضل. يستطيع الناشطون أن يستفيدوا من هذه العوامل إذا حصلوا على فرصة جديدة لتحدّي السلطة القائمة، لكن خاض المدافعون عن الأنظمة الراسخة تحوّلات خاصة بهم أيضاً. لقد تغيرت قواعد المعركة بالنسبة إليهم. هم يعتبرون الأحداث التي حصلت منذ عشر سنوات استثناءً على القاعدة أو تشويهاً للوضع الطبيعي، لذا يصرّون اليوم على عدم السماح مجدداً بتحويل المساحات العامة والخاصة والافتراضيـة إلى معاقل للمعارضة.



من الأصعب اليوم أن تصبح صفحة "كلنا خالد سعيد" على فيسبوك آلية فعلية لحشد الناس نظراً إلى كمّ الدروس التي تعلّمتها أجهزة الأمن المصرية على مر العقد الأخير. مع ذلك، لم يعد المسؤولون الحاليون في مصر ونظراؤهم في أجزاء أخرى من المنطقة يعرفون كل شيء بقدر المسؤولين عن استقرار بلدانهم قبل عشر سنوات. نتيجةً لذلك، نشأت دينامية غريبة حيث يتنافس الناشطون الذين يحلمون بنشوء مجتمعات عادلة ومنفتحة ضد المسؤولين عن إعادة ترسيخ الحُكم الاستبدادي في مجتمعات الشرق الأوسط قبل تعرّضهم للاعتقال.

يتوقف رأي المراقبين حول الأحداث المرتقبة في الدول العربية على تحليلهم لما حصل منذ عشر سنوات. لكن يتراجع الإجماع حول هذا الموضوع أكثر مما يظن البعض. هل كانت تلك الانتفاضات ثورات حقيقية؟ قد تشير الأحداث إلى اندلاع ثورات فعلية نظراً إلى طابعها الارتجالي. انتفض الناس وسقط القادة، لكنّ الثورات الحقيقية تكون أكثر تعقيداً. هي تستلزم الإطاحة بالنظام السياسي والنظــــام الاجتماعي الذي يدعمه. هذا ما حصـــل مثلاً في إيران في العام 1979، لكنه لم يتكرر في الدول العربية بين العامين 2010 و2011.

لم تشهد تونس ثورة حقيقية مع أنها أحرزت أكبر تقدّم مقارنةً بالدول الأخرى. خاض هذا البلد مرحلة انتقالية معينة، لكنها لم ترتكز على ميثاق واضح المعالم بل على سلسلة من المفاوضات وإعادة التفاوض بين القادة لتجنب أي أزمات محتملة أو تجاوزها. تشير هذه الأحداث كلها إلى الثقافة التونسية المتحضّرة، لكنّ النظام الاجتماعي القديم الذي كان يدعم بن علي لا يزال قائماً.

في مصر، وحدها الأجواء الحالمة التي أحاطت بانتفاضة 25 يناير وسقوط مبارك المخزي بعد مرور 18 يوماً هي التي تعطي صفة "الثورة" لتلك الأحداث بدل تسميتها على حقيقتها: انقلاب. لكن إذا وصل عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في تموز 2013 عبر انقلاب فعلي، يمكن قول الأمر نفسه عن المشير محمد حسين طنطاوي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة في شباط 2011. حصل تغيير في القيادة داخل مصر لكن لم يتغير النظام السياسي ولا الأنماط الطاغية على مقاليد السلطة في المجتمع.

ربما كانت أحداث ليبيا الأقرب إلى معنى الثورة. لكن رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها نُخَب سياسية معينة لابتكار طريقة سلمية وديموقراطية للمضي قدماً، لم يتفكك النظام الاجتماعي القائم بل زادت الضغوط على البلد. لجأ الناس إلى القبائل والمناطق طلباً للمساعدة والدعم خلال الأحداث الفوضوية التي تَلَت انتفاضة 15 شباط. لم يكن ما حصل مفاجئاً نظراً إلى أهمية هذين العاملَين خلال عهد القذافي، لكن سرعان ما طغت المصالح السياسية الضيقة على ليبيا وفككت البلد، ما أدى إلى نشوء مجموعة هائلة من الميليشيات وحكومتَين وجماعات متطرفة واندلاع حرب أهلية عادت وتحوّلت إلى صراع إقليمي بالوكالة. حتى سوريا لم تصل إلى هذه المرحلة حين ردّ بشار الأسد على المتظاهرين السلميين بالرصاص والتعذيب. بعد مرور عشر سنوات، أصبحت سوريا مفككة بمعنى الكلمة بسبب صراعٍ كان وحشياً ومدمّراً لدرجة ألا يعود تكرار أعداد القتلى والمهجّرين مُجدياً لأن هذه الأرقام خسرت معناها بكل بساطة.

كيف يمكن اعتبار أيٍّ من هذه الأحداث "ربيعاً" وما الذي تنذر به حول المستقبل؟ ترافقت تسمية "الربيع العربي" مع الافتراض القائل إن أحداثاً إيجابية ستلي الصرخات المدوّية الداعية إلى "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية" حين يسقط القادة عن عروشهم. لكن عند النظر إلى أحداث العقد الأخير، يصعب أن نفهم اقتناع البعض بأن تلك الانتفاضات حققت شيئاً باستثناء الدمار والمشاكل. لا يعني ذلك أن الانتفاضات السابقة كانت خاطئة، إذ يستحيل وضع هذا النوع من الأحداث غير المتوقعة في خانة مماثلة. لقد انتفض التونسيون والمصريون والليبيون والسوريون واليمنيون والبحرينيون وسواهم رداً على ظروفهم المريرة للمطالبة بمستقبل أفضل. لكنهم تعرّضوا في معظمهم للقمع.

هل تعطي هذه الأحداث طابعاً استثنائياً لسكان الشرق الأوسط؟ لا! الثورات نادرة بطبيعتها وغالباً ما تفشل العمليات الانتقالية نحو الديموقراطية أكثر مما تنجح. وإذا نجح الناشطون بطريقة ما في إعادة تأجيج شرارة الثورة رغم صعوبة الأمر وملأوا الساحات العامة مجدداً في المدن العربية للمطالبة بسقوط أنظمتهم، لا شيء يضمن أن تكون النتيجة مختلفة هذه المرة. يبقى هذا الهدف مجرّد أمنية. على أمل أن يتحقق يوماً...


MISS 3