محمد عبيد

من أين نبدأ؟

28 كانون الأول 2020

02 : 00

"العونية" كخيار سياسي أخذت تترنّح باكراً

من أين نبدأ، سؤال يتناقله اللبنانيون في معرض إبداء حيرتهم، وغالباً يأسهم، من إمكانية إيجاد حلول فعلية لأزماتهم التي تتعاظم وتكبر وتتعقّد يوماً بعد يوم.

أما حيرتهم الكبرى فهي نتيجة قناعتهم التي باتت راسخة بأنّ إنقاذ وطنهم وأنفسهم صار مسؤوليتهم المباشرة، بعدما تخلّت منظومة الحكم القديمة وملحقاتها الجديدة عن هذه المسؤولية، وهي نفسها السبب المباشر والأوّل والأخير في حصول تلك الأزمات وتراكمها.

غير أنّ المفارقة الأبرز والأهمّ في هذه المعادلة المستحيلة، أعني قدرة اللبنانيين على ابتداع الحلول المرجوّة خارج إرادة المنظومة الحاكمة، تكمن في محدودية تلك القدرة، كونها وإن تكوّنت، لن تتجاوز مفاعيلها بعض معالجات جزئية وموضعية، في حين أنّ الإنهيار المتدحرج بسرعة فائقة صار يشكّل تعبيراً واضحاً عن سقوط نظام الحكم بآلياته المتداولة منذ 28 عاماً، ممّا يعني أنّ لا قدرة للبنانيين المواطنين أو المهتمّين بالشأن العام من خارج منظومة الحكم على التغيير أو الإنقاذ، وِفق إمكانياتهم المستنزفة، بطغيان الهمّ المعيشي والقلق المستقبلي، أو المستغرقة بغرائزهم الطائفية والمناطقية، أو تلك المستسلِمة والمستزلمة لمسؤول هنا وهناك.

لذلك، تبدو فكرة تبلور قيادة قادرة على صوغ مشروع إنقاذ وطني أمراً صعب الحصول في المدى المنظور. إذ أنّ لبنان يحتاج الى رافعة داخلية تعمل على إعادة تركيب مجموعة قيم وطنية ومبادئ سياسية تستعيد الميزات التي أنتجت فرادة هذا الكيان، من حيث خصوصية تركيبته الاجتماعية وإيجابيتها التنوّعية، والتي كان لها الأثر الأكبر سابقاً في تكوين الشخصية اللبنانية المبنية على الإنفتاح والتفاعل في أيّ بيئة عاشت فيها.

في واقعنا الحالي، وبعد التجارب المتكرّرة والرهان الممجوج على الطبقة التي توالت على الحكم بعد إنتخاب أوّل مجلس نيابي وِفقاً لوثيقة الوفاق الوطني (الطائف) العام 1992 وحتّى يومنا هذا، يبدو انتظار بناء تلك الرافعة الداخلية على أيدي هذه الطبقة المتدنّية القدرة فكرياً، لجهة فهم كُنه هذا الكيان، والفاقدة للإرادة الوطنية المتحفّزة بحيث تقدّمها على مصالحها الشخصية والآنية، وهي التي إعتمدت "المياومة السياسية" أسلوباً حصرياً في مقاربتها لكلّ شأن وطني أياً كانت معطياته ومخاطره، أيضاً لم يعد يجدي نفعاً.

يقول إمام الوطن السيّد موسى الصدر العام 1977: "هناك أسس ثابتة تشكّل الأعمدة الأساسية لبناء المستقبل، وهي: الحرّية، إلغاء الطائفية السياسية وإقرار العدالة الاجتماعية". ويضيف "إنّ مبدأ الحرّية شرط أساسي لبقاء صيغة التعايش فيه، وبالتالي لترسيخ وحدته، ونحن متمسّكون بقوة بالتعايش، ونعتبره أمانة الله والإنسان بيدنا... فلبنان كبير بالحرّية وصغير من دونها. أمّا مبدأ إلغاء الطائفية السياسية فقد إخترناه من دون العلمنة من أجل توفير تكافؤ الفرص السياسية للجميع، وبالتالي تحرير الكفاءات البشرية من جهة وتحرير الأديان من المتاجرة بها من جهة أخرى".

لست في معرض التنظير، وقد إعتدت المباشرة في طرح أفكاري وتوجّهاتي، إنّما أردت الإشارة الى أنّنا نواجه أزمة فقدان قيادات نوعية وكبيرة بحجم فرادة وكِبَرِ وطننا في مرحلة خطيرة تهدّد معنى وجوده وفعالية دوره والأعمق مهمّته الرسالية، كوطن للتعايش الحرّ القائم على إحترام الآخر وقبوله والتفاعل معه.

لقد استصغرت هذه الطبقة لبنان لأنّها هي بالأصل صغيرة بالمعنى والحضور وبمحدودية الأفق، كما استصغرت اللبنانيين، ممّا مكّنها من محاصرة معظمهم بعناوين وشعارات طائفية - سياسية، في حين تمكّن الباقون من النفاذ من بين أيديها، فمنهم من عانى وما زال في الداخل، ومنهم من إختار الهجرة والبُعد بإنتظار تبدّل الأحوال.

وبصراحة مطلقة، فإن الأسلوب الذي دأبت على تسويقه سابقاً بعض القيادات السورية، التي كانت معنيّة بمتابعة الشأن اللبناني الداخلي، جعل من لبنان الدولة محميات موزّعة بين أركان منظومة "الحريرية السياسية" الثلاثية "الحريري- بري- جنبلاط"، والتي فرضتها هذه القيادات على اللبنانيين جميعاً، في إعتبار أنّ هؤلاء الأركان أمراء نواحي مناطقية - طائفية، يمسكون بمفاصل الدولة وأبوابها. وبالتالي، فإنّ الحصول على أيّ خدمة واجبة للمواطن اللبناني يفرض عليه الوقوف أمام هذه الأبواب مُستجدياً أو مُستعطفاً وراجياً، ممّا أنتج صيغتي "المحاصصة" و"الزبائنية السياسية" التي كانت وما زالت نهجاً معتمداً حتى يومنا هذا. بل الأسوأ أنّ القوى التي دخلت بعد الإنسحاب السوري على اللعبة السياسية الداخلية، كالحالة العونية مثالاً، كانت وما زالت تصارع للإنضمام الى تلك المنظومة، وقد سنحت لها الفرصة لتحقيق ذلك، خصوصاً من خلال ما سمّي بالتسوية الرئاسية.

غير أنّ أخطر ما واجهه لبنان، وبالأخص دستوره الجديد "الطائف" على أيدي "الحريرية السياسية" هو التلاعب بالقوانين وبتطبيقها بما يتّفق مع حرصها على إستدامة وجودها في السلطة وطغيانها على طوائفها ومواقع تمثيلها، في حين أنّه كان المنتظر منها، كتعبير عن إنتصار "الخيار السوري" المدعوم سعودياً وأميركياً في لبنان آنذاك، أن تكرّس المبادئ الإصلاحية الجذرية في هذا الدستور وملحقاته الإستراتيجية في ما يتعلق بموضوعي المقاومة ضدّ العدوّ الإسرائيلي والعلاقات المميّزة مع سوريا.

أما الأكثر خطراً فقد تمثّل في "قوننة" الفساد الذي طبع تلك المرحلة، والذي انتقل في أيامنا هذه الى "قوننة" حماية الفاسدين وأموالهم وممتلكاتهم وحماية عوائلهم وحاشياتهم من المحاسبة المحتمة.

لذلك، وإنطلاقاً من الموقع التأسيسي للسلطات، والتشريعي للدولة الذي منحه دستور "الطائف" لمجلس النواب، لا بدّ أن نبدأ من فرض التغيير في هذا المجلس من خلال إجباره على إسقاطه آلياته ووسائله التي اعتمدها منذ 28 عاماً في مقاربته لمناقشة وإقرار مشاريع أو إقتراحات القوانين، هذه المقاربة التي تغلب عليها سِمة "الإحتيال التشريعي المدروس"، وآخر مثال على ذلك ما أقرّه هذا المجلس حول "السرّية المصرفية"!

إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري أمام فرصة أخيرة في ما تبقّى من ولاية المجلس الحالي، لإستعادة وتكريس بعض من المبادئ الوطنية التي انطلق منها، والإقتناع بأن حيثيته السياسية لا يمكن أن يحميها النفوذ المفروض بالمصالح أو بالقوة، في حين أنّ الرافعة الشعبية التي أوصلته الى سدّة الرئاسة الثانية لتمثيل الشيعة في النظام السياسي إنّما أرادت حينها أن تعوّض ما فاتها مع الإمام الصدر من خلال ولائها ودعمها له.

على المقلب الآخر، يبدو أنّ "العونية" كخيار سياسي أخذت تترنّح باكراً، بعدما كان قد عُقِد لها لواء الولاء من غالبية المسيحيين وغير المسيحيين الذين وجدوا في الخيارات المستجدّة التي عبّر عنها العماد ميشال عون قبل الرئاسة مدخلاً تأسيسياً لـ"الإصلاح والتغيير" اللذين أرادهما الشعب اللبناني بأكمله.

لست ممّن يأخذون على العماد الرئيس وتياره مطالبته بحقوق المسيحيين، فهذا حقّ لهم وواجب على المسلمين. لكن كان من المفترض والمؤمل أن تقود إستعادة هذه الحقوق الى شراكة تؤسّس لتوازن وطني يعيد البحث في تطبيق البنود الإصلاحية في دستور "الطائف"، لا الإنقلاب عليها حيناً، أو التحايل عليها أحياناً، من خلال فرض إجتهادات غبّ الطلب على هذا الدستور، كذلك يكرّس المهمّة التاريخية للمسيحيين القائمة على السعي الى وصل لبنان بالعالم، خصوصاً الغربي منه، وبالأخصّ بعدما تمكّن ثلاثي "الحريرية السياسية"، ولسنوات طويلة، من إسقاط هذه المهمّة، ومحاصرتها على المستويين السياسي والإقتصادي. المؤسف أنّ كل هذه الآمال الموعودة والأدوار المُنتظَرة سقطت، بعدما تحوّل مشروع الوصول الى كرسي الرئاسة الأولى معبراً زمنياً للتوريث المستحيل.

كما الرئيس نبيه بري، فإنّ رئيس الجمهورية ميشال عون أمام فرصة أخيرة في ما تبقّى من ولايته الرئاسية، لإعادة الإعتبار للدولة ولموقعه كحكمٍ نزيه بين السلطات التي من المفترض أن تكون منفصلة ومتعاونة في الوقت ذاته.

وهذه الفرصة مؤاتية الآن من خلال التمسّك بتشكيل حكومة إنقاذية فعلية يراعى فيها أمران ولا شيء غيرهما: الكفاءة ونظافة الكفّ، ورفض ما يتم تداوله حول تحوّل الرئاسة صندوق بريد لرسائل رئيس تكتّل "لبنان القويّ" النائب جبران باسيل في ما يتعلّق بحصصه الوزارية.

قد يبدو هذا الكلام تقليدياً بالشكل، لكن في الواقع فإنّ تحقيق هذين الأمرين يعني الإحتكام الى الدستور حول صلاحية الرئيس وحقّه في المشاركة في إختيار الوزراء كافة، وليس فقط الوزراء المسيحيين أو بعضهم كما يجري الآن.

على هذا الأساس، يُفهَم دور الحكم القوي وليس الرئيس القويّ بتيّاره أو طائفته، أي القدرة على التأثير الإيجابي والمنتج في كلّ ما يتعلق بأمور الدولة التنفيذية والتشريعية.

لن أتطرّق الى اللاعبين السياسيين الآخرين على الساحة الداخلية، بعدما تحوّلوا لاعبين ثانويين يتأثّرون ولا يؤثّرون. وهذا ليس تجنّياً أبداً، بل توصيف واقعي لمنظومة يتهاوى أربابها، فكيف بالملحقين المنتظرين على رصيف تبدّل العلاقات الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية؟

طبعاً هذا لا يشمل "حزب الله"، الحالة التي تحتاج الى مقاربة مختلفة كلّياً نظراً لتأثيراتها الكبرى على الواقعين الداخلي والخارجي، خصوصاً بعد انتصاره الأبرز العام 2000 على العدوّ الإسرائيلي، وإجباره على الإنسحاب من لبنان، من دون قيد أو شرط.

MISS 3