جاد حداد

اللغات المعرّضة للاندثار... حملة للحفاظ عليها

21 كانون الثاني 2021

02 : 00

سكان قرية أواكساسكا في المكسيك حيث ينطق الناس بلغة "الميكس"
حين تندثر أي لغة، تنقرض معها ثقافة بأكملها. قد تختفي اللغات طبيعياً، لكن ينجم انقراضها أحياناً عن ضوابط ثقافية أو محظورات معينة أو حالات تجريم أو الإهمال بكل بساطة.

تختفي لغة واحدة كل أسبوعين! من أصل 7 آلاف لغة محكية اليوم، تصل نسبة اللغات المُهددة بالانقراض خلال السنوات المقبلة إلى 40% تقريباً. في سباق شبه يائس لإنقاذ هذه اللغات، ينظّم ناشطون من جميع أنحاء العالم صفوفهم بوسائل متنوعة، أبرزها مواقع التواصل الاجتماعي، للحفاظ على لغات الأقليات وتعليمها للجيل الأصغر سناً.

بدءاً من ناشطين يحملون أجندة واضحة للحفاظ على اللغات وصولاً إلى أشخاص عاديين يغنّون ويتكلمون بلغاتهم الخاصة، يتّكل الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي لترويج المقاطع التي يريدونها والتفاعل مع الجمهور المستهدف. حتى لو تبخر جزء من هذه اللغات، تسهم شبكة الإنترنت في الحفاظ عليها كي تعرف الأجيال المستقبلية أنها كانت موجودة يوماً وكي تختبرها بالشكل الذي كانت عليه.



سنجيب تشودري من النيبال



يقول سنجيب تشودري، ناشط اجتماعي من نيبال يعمل في مجال التنمية المحلية: "أشعر بالفخر لأنني أجيد واحدة من لغات الأقليات. أعرف كلمات أصلية لا يمكن ترجمتها بدقة إلى لغات أخرى".

تكون التطبيقات مثـل ( Duolingo) مفيدة جداً للمتحدثين بلغات الأقليات. كذلك، تشكّل قنوات يوتيوب المخصصة للحفاظ على هذه اللغات وتعليمها جزءاً أساسياً من الجهود العالمية الرامية إلى منع انقراض أي لغة جماعية خلال السنوات أو العقود المقبلة. على مر العام 2019، سيطر فريق متناوب من الناشطين الرقميين الناطقين بلغات أصلية من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا على حسابات معروفة على تويتر ( @ ActLenguas، @DigiAfricanLang، @AsiaLangsOnline) وحاولوا أن يخلقوا مساحة كافية للتعبير عن أصوات متنوعة من أنحاء المنطقة وسرد تجاربهم لإعادة إحياء اللغات المُهدّدة. لدعم هذه الجهود، أعلنت الأمم المتحدة عن إطلاق "العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية" بين العامَين 2022 و2032، ومن المخطط أن يدعم الناشطون حول العالم هذه الحملة لتقوية اللغات والمجتمعات المرتبطة بالأقليات.

لكن ستكون هذه المعركة شاقة نظراً إلى وفرة الأعداء الخارجيين أو حتى الداخليين. برأي البعض، لا نفع من تناقل لغات "غير مجدية" كونها لن تساعد أولادنا وأحفادنا على العمل في وظائف لائقة. كذلك، لا يهتم الشبان عموماً بلغات أسلافهم في عالمٍ تُعتبر فيه الإنكليزية اللغة المشتركة بين الناس.

لكن يحاول عدد كبير من الشباب في المقابل الحفاظ على لغته. ينحدر هؤلاء من عائلات ناشطين أو يهتمون بثقافتهم الخاصة بكل بساطة. تنطبق هذه الصفات على سنجيب تشودري: لغته الأم هي لغة ثارو الشرقية التي يتكلمها 1.6 مليون نسمة فقط في جنوب نيبال.

يقول تشودري الذي نشأ في العاصمة خاتماندو: "لو لم تحرص عائلتي على اصطحابي إلى وطني الأم كل سنة والتكلم معي بلغتنا الأصلية، كنتُ لأنساها بالكامل. يؤسفني أن أقول إنني كنتُ أتكلم اللغة النيبالية مع أشقائي وشقيقاتي أثناء نشأتنا في خاتماندو، لكن تجد ابنتي اليوم صعوبة في فهم لغة ثارو الشرقية".

تختلف تجربة هيكتور فلوريس بالكامل. كان جدّاه يتكلمان لغة النهوات الأصلية في السلفادور، لكنه لم يتعلّمها قبل دخوله إلى الجامعة.

يَصِف فلوريس تجربته قائلاً: "في العام 2016، حين كنتُ أشارك في دورة حول علم التربية، طرح أحدهم بيانات مريعة مفادها أن عدد الناطقين بلغة النهوات يقتصر على 200 شخص تقريباً وفق إحصاء سكاني في السلفادور في العام 2007. شعرتُ بحزن شديد حين علمتُ أن لغة جدَّي ستندثر قريباً وأن أحداً لا يبذل جهداً لإعادة إحيائها أو توثيقها. لذا بدأتُ أتعلّم تلك اللغة وأزور السكان في "سانتو دومينغو دي غوزمان"، على بُعد ساعتين من بلدتي الأم. احتجتُ إلى أربع سنوات كي أتعلم اللغة بطلاقة".

ثم قرر فلوريس وتشودري التحرك. يوضح تشودري: "أمام هذا الوضع وبما أنني مشارك في مدونة "صوت لغة ثارو"، قررتُ أن أعمل على تجديد اهتمام الجيل الأصغر سناً بهذه اللغة. أنا أجمع الأمثال والعبارات والتعابير المجازية والقصص والأغاني الشعبية بلغة ثارو الشرقية. إنها مهمة شاقة لأن معظم الناطقين بهذه اللغة مسنّون أو يعيشون في القرى. وبما أنني أعيش وأعمل في خاتماندو، لا أستطيع أن أجمع تلك المعطيات إلا مرة أو مرتين في السنة، حين أزور القرى الريفية للتكلم مع كبار السن وأصحاب المعرفة". أنشأ تشودري مجموعة تضمّ عدداً من الشبان المتحمسين لإعادة إحياء هذه اللغة بهدف جمع قاموس بلغتهم وترويجها عبر الإنترنت. إضطر فلوريس بدوره للبحث عن طرق مبتكرة لإعادة إحياء لغته، فنسّق دروسه في الجامعات والكليات في العاصمة "سان سلفادور" لتطوير تلك اللغة وقرر فتح قناة على يوتيوب اسمها Timumachtikan.

تشكّل هذه المبادرة دعوة لتعلّم لغة النهوات وجذب انتباه الأولاد والشبان والراشدين تمهيداً لإنشاء جيل جديد من الناطقين بهذه اللغة. يأمل فلوريس في أن تبقى المعلومات التي وثّقها بمتناول الأجيال المستقبلية التي تهتم بدراسة لغته الأم حين يختفي جميع المتحدثين المحليين الذين يجيدونها.

على صعيد آخر، يسهم استعمال لغات الأقليات في السياقات التكنولوجية أيضاً في محاربة الأحكام المسبقة وزيادة الامتيازات اللغوية وإثبات مكانة مختلف اللغات في العالم الرقمي المعاصر.

تحمل تاجو بياتريس دياز روبلز الرأي نفسه. تدعم هذه الناشطة استعمال لغة ميكس زوكيان في المكسيك فتقول: "يجب أن ننشر معلوماتنا على جميع المنصات. أنا أنحدر من عائلة ناشطين يدافعون عن حقوق السكان الأصليين. كان والدي مناضلاً مثابراً حتى وفاته ولطالما ظنّ أبناء جيله أن الدفاع عن الحياة الاجتماعية يرتكز على مستوى تعليمهم والاقتصاد الإقليمي والأهم من ذلك الدفاع عن الأرض. كانت اللغة عنصراً محورياً بالنسبة إليهم".

كذلك، تظن روبلز أن الناشطين يدافعون عن لغة ميكس زوكيان عبر دعم الجهود الرامية إلى نشر لغتهم وترويجها وإجراء الأبحاث عنها من منظور متعدد التخصصات، وعبر إنشاء مجموعة Colmix الخاصة بهذه اللغة بالتعاون مع زملاء لهم ولغويين آخرين يريدون نشر لغاتهم الخاصة.

تدرس نيكي بينسون حملات إعادة إحياء اللغات الأصلية في جامعة فيكتوريا في كندا، وهي مساعِدة بحثية في الشراكة المرتبطة باللغات الأصلية NETOLNEW (تعني هذه الكلمة "عقل واحد، شعب واحد" بلغة السنكوتين). هي تعتبر تسجيل اللغات المُهددة بالانقراض عاملاً أساسياً لإعادة إحيائها وتقويتها. يوافقها الرأي ميغيل أنخيل أوكسلاج غوميز، أستاذ في جامعة "مايا كاكشيكيل" في غواتيمالا وأحد رعاة "مهرجان اللغات الأصلية على الإنترنت"، لكنه يذكر أن الإنترنت تبقى "مساحة تُهمين عليها اللغات الطاغية التي باتت تعتبر الشبكة مكاناً خاصاً بها".

يضيف غوميز: "يجب أن تكون شبكة الإنترنت أكثر تنوعاً وتصبح متعددة اللغات طبعاً لأن مستخدميها متنوعون ومتعددو اللغات. كذلك، يجب أن تتمكن الأقليات من تحويل الإنترنت إلى مساحة خاصة بهم عبر إعطاء الامتيازات إلى اللغات الأصلية".

يقول سوبهاشيش بانيغراهي، مخرج أفلام وثائقية يجيد لهجة بالسواري التي تشتق من اللغة الأردية في الهند وتفتقر إلى التوثيق وتغيب عن أهم وسائل الإعلام: "غالباً ما تكون لغات الأقليات، لا سيما تلك الشائعة في الدول النامية، محكية في مجتمعات حيث تَقِلّ الموارد المالية أو التعليمية أو التقنية التي تسمح بإنشاء وسائل إعلام مستقلة. في المقابل، تشكّل مواقع التواصل الاجتماعي منصة ممتازة تسمح للأفراد بالتعبير عن آرائهم بطريقة لامركزية وتُسهّل التواصل مع أوسع شريحة من الجمهور خلال وقتٍ قصير.

قد تكون اللغة الأردية غير شائعة، لكنها ليست جزءاً من لغات الأقليات أو اللغات المهددة بالانقراض. لذا قرر بانيغراهي أن يوثّق لغات الأقليات واللهجات غير الشائعة عبر استعمال الحملات الرقمية كأداة بحد ذاتها.

يجيد جيروم هاريرا لغة شاباكانو الأصلية من الفلبين: إنها واحدة من اللغات الكريولية المشتقة من الإسبانية ويجيدها بين 600 و700 ألف شخص في مدينة "زامبوانجا" الفلبينية. يقول هاريرا: "مواقع التواصل الاجتماعي أداة ممتازة لنشر الوعي حول اللغات المُهددة بالانقراض وللحفاظ عليها أيضاً. تساعدنا هذه الأداة على الوصول إلى شريحة أوسع من الجمهور عالمياً. في ما يخص لغة شاباكانو تحديداً، ساعدتنا شبكة الإنترنت على إطلاق نقاش بين الناطقين بها حول مواضيع متعددة مثل قواعد الإملاء وأهمية هذه اللغة في الوقت الحاضر".

تتعدد المبادرات التي انطلقت على الإنترنت وتهدف إلى منع مئات، أو حتى آلاف، اللغات الأصلية من الاختفاء خلال السنوات القليلة المقبلة. يظن البعض أن إنقاذ جميع اللغات مستحيل، لكن يمكننا أن نحاول على الأقل إبطاء اندثار أكثر اللغات هشاشة ونُكرّم التاريخ الثقافي الذي يُغني ماضينا.


MISS 3