فادي كرم

عندما تُصبح المعارضة بخدمة السلطة

26 كانون الثاني 2021

02 : 00

ليس كلّ من يُصنّف معارضة تنطبق عليه فعلياً مواصفات المعارضة الحقيقية، فتحمّل هذه المسؤولية الوطنية التاريخية لا يتأمّن إلا بأداء متكامل ومرتبط بطرح استراتيجي فكري وبتصوّر عملاني، ولا يقتصر على تموضع مرحلي سياسي وتسابق انتهازي للسلطة. والمعارضة قد تكون في بعض مراحل حياة الشعوب مسؤولة كما السلطة الحاكمة، عن إطالة أمد معاناة الشعب، إنْ أساءت إدارة نقمة الشعب، وإنْ ابتعدت عن التشخيص الصحيح لأسباب الأزمة الوطنية، وإنْ لم تبتدع السبل والخطوات الفعّالة والضرورية والناجعة لمواجهة الأسباب، ومعالجة الاضرار.

فإن كانت المعارضات أنواعاً وأصنافاً، فهذا يعني أنّ الحكم عليها يجدر أن يكون من منظار فعاليتها. وفي لبنان حالياً، نشهد معارضات عدّة، منها الكلامية المزايدية، الموهومة بفعالية صوتها العالي، الذي شبّهه جبران خليل جبران بأصوات الضفادع التي تعلو أصواتها على اصوات البقر، لكن لا يمكن ان تُفيد البشرية كالبقر، لأنها لا تُنتج الحليب، ولا يمكن صناعة الحقائب والألبسة من جلودها. فإرضاء الشعب الناقم بالصراخ والمزايدات، لن يوصل القضية الى المكان المطلوب، بل انّه سيُعمّق الخيبة والقهر، وصولاً الى القبول بالتسويات المبنية على قاعدة "أفضل الممكن" انتهاءً بالتشرذم، وبدخول بعض الشخصيات المعارضة "الصارخة في البراري" الى السلطة الحاكمة الظالمة، لمشاركتها في عملية إذلال الشعب.

وهناك ايضاً المعارضة المدسوسة، المُكلّفة بمهمّة فرقعة المعارضات الحقيقية العفوية والمنظّمة، فتلعب دورها بحِرفية لخرق المجموعات الإنتفاضية، بهدف إفشالها ومنعها من تشكيل حركات مُهدّدة للسلطة. انّها النوع المخابراتي العامل من داخل المعارضات، لصالح أجهزة السلطة القمعية، وانها النوع الساكر بالقوة والحماية، وسيحمّلها التاريخ لقب الخائن والمجرم.

أمّا المعارضة الصامتة، التي قد تُشكّل عددية ما، فينطبق عليها وصف "معارضة المنازل والصالونات"، فنتيجة تخوّفها على مراكزها ومكتسباتها، فهي معارضة فاقدة للدور وللفعالية، وسيُحمّلها التاريخ لقب "الساكت عن كرامته"، ليقال فيها قولٌ لاليزابيت كيني "من الأفضل أن تكون أسداً ليوم واحد، على أن تكون خروفاً للحياة بأكملها".

وهناك المعارضة التي تنتمي للذهنية ذاتها المتحكّمة بالحكم، وهي المعارضة المكمّلة للمنظومة الحالية، والساعية لتغيير الأسماء والأدوار، وليس لإصلاح منطق ادارة الدولة وكفاءة ونوعية مسؤوليها. انها معارضة "زيح حتّى اقعد محلّك" وهي التي أفشلت ثورة الأرز وحركة "14آذار"، بتخاذلها امام مطلب الشعب الثائر لصالح بناء الدولة العميقة، وسيحكم التاريخ عليها "كلّن يعني كلّن".

امّا المعارضة الحقيقية المعقود الأمل عليها، فهي التي يمتلِئ سجلّها بالمعاناة والإعتقالات والجروح، والطروحات الإصلاحية الجريئة، هي التي بكت مع المقهورين، وقُمِعت مع المغدورين، وهي التي وضعت أنانيتها جانباً، وذهبت الى طرح إعادة بناء الوطن، فتخلّت عن المواقع والسلطات، وأجرت التفاهمات السياسية حسب الشروط الضرورية للإنتقال مع الآخرين الى مفهوم التعاون الإيجابي لإعادة سيادة مؤسّسات الجمهورية، وإصلاحها، معتبرةً أنّ هذه هي الطريق الأسرع والأنجع والأجدى، ومرتكزةً على قاعدة عدم قطع الغابات، مهما كان نموّها سيّئاً، بل العمل على تقليمها وإصلاحها، كما ريّ الصحارى لتحويلها غاباتٍ منتجة ومليئة بالحياة. وهي التي أسمت كتلتها النيابية "الجمهورية القوية" التزاماً منها ببرنامج بناء الجمهورية المرتجاة، وهي التي أقرنت الصراخ بالفعالية، وجذبت الذين يجرأون خوض المسارات الصعبة والوعرة والمؤلمة. إنها المعارضة التي أدركت الشروط الأساسية لانجاح المعارضات والثورات، وعملت على اعتمادها، والتي تكلّم عنها المفكّر "صموئيل هنتختون" في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متنوعّة" مُحدّداً هذه الشروط بالتالي: "الشرط الأول هو عندما تعجز المؤسسات السياسية عن توفير قنوات لمشاركة قوى اجتماعية جديدة في السياسة ونخبٍ جديدة في نظام الحكم، والشرط الثاني هو في رغبة القوى الاجتماعية التي يجري استبعادها عن السياسة، في المشاركة فيها". اذاً، هذه المعارضة الهادفة "للجمهورية القوية" بادرت قبل الجميع لطرح هذه الشروط على طاولة النقاش الاقتصادي الوطني الذي دعا اليه رئيس الجمهورية في ايلول 2019، اي قبل اندلاع انتفاضة 17تشرين الاول في تلك السنة، وهذا يؤكّد أنها المعارضة التي تملك برنامجاً يتناسب مع المواجهة الناجحة لإسقاط السلطة الحاكمة، والمرفق ببرنامج طموح لما بعد إنقاذ الوطن من الواقع المرير، وهنا تقع خطورتها، والخطورة عليها. انها المعارضة التي تدرك انها لن تستطيع خوض المعركة منفردة، وتعرف تمام المعرفة أنّ التخلّص من جهنّم السلطة الحاكمة لن يحصل إن لم تتأمن شروطه من خلال توحيد القوى المعارضة في جبهةٍ واحدة، خلف أهدافٍ معروفة، تتجمّع فيها النيات والمقومات والانتفاضات والاعتراضات، لتصبّ في مسار واحد وخطواتٍ محدّدة. هي المعارضة التي تعرف أنّ كل ضربةٍ لا تؤدّي لاسقاط السلطة، ستؤدّي الى تقويتها، والى إضعاف المعارضة.

وأهمّ ما تدركه هذه المعارضة، أنها حتّى لو نجحت في إسقاط السلطة، فلن تتحوّل هي الى سلطةٍ جديدة فاقدة لثقة الشعب، لتحلّ محلّها معارضة جديدة تمثّل أكثرية شعبية تعمل لإسقاطها.


MISS 3