فادي كرم

فرص الإصلاح مع الزعيم "المُلهم"

1 شباط 2021

02 : 00

هناك فرق كبير بين مسارات الثورات والمسارات التي يتّبعها الساعون للإصلاح. فالثورات تعتمد أسلوب العنف المُناسب لمواجهة قمع السلطة، وتماديها المُفرط بالقساوة المقصودة، وهذا ما يُفسّر سبب عدم اندلاع ثوراتٍ في الدول المحكومة من أنظمة ديموقراطية. فللنظام الديموقراطي آليات تنظّم عملية تداول السلطات بين الأفرقاء السياسيين المتنافسين، وتُتيح المجال لإجراء الإصلاحات الضرورية بسلاسةٍ واعتدال. أمّا في الأنظمة القمعية، فهذه العلاقة التكاملية مُختلّة والثقة مفقودة، وسلسلة الإصلاحات العامة منهارة. هذا ما وصل اليه لبنان حالياً مع سلطة تحالف "حزب الله" المرتبط بالمشروع الايراني التفاوضي، و"التيار الوطني الحر" المُرتبط بسلطويته المستبدّة. هذا الحلف يرفض الإصلاح ويتحدّى الثورة، ولذلك فرض على اللبنانيين الإختيار بين مسارين، إمّا الثورة وإمّا الإصلاح.

واذا كان العنفوان الشعبي يميل للإنتقام من السلطة الظالمة، ويُفضّل خوض غمار الثورة على الجدليات والتعقيدات الدقيقة لمعركة الاصلاح، ويعتبرها الحلّ الأسرع لمشاكله الحياتية، فهي ايضاً الملاذ الحتمي للسلطات التي ترفض الإصلاح والتغيير، لأنّها تحاول الاستفادة من انتفاضة الناس الثورية ضدّها لتبرير حقّها بالقمع. إنّ السلطة الحاكمة تخاف من الإصلاحات أكثر من خوفها من الثورة لأنهّا تعتبر نفسها محصّنة ضدّ الثورات نتيجة استعمالها لتأثيرها المتفرّع وكثرة المستفيدين من استمرارها في الحكم. فكما قال تانينبوم "لو أنّ شيئاً بعينه يمكن قوله عن الثورات السياسية فهو أنّها لا تقع، ولا يمكنها أن تقع، في بلادٍ قوتها السياسية موزّعة في الف مكان، فثمّة أعداد غفيرة من الناس يشعرون بأنّهم يشاركون شخصياً في المشاكل المستمرّة في الدوائر والبلديات المحكومة حكماً ذاتياً".

فخيار الذهاب الى الثورة أو الى الإصلاح، لا يتحكّم به فقط الفكر والعقيدة والثقافة السياسية للأفرقاء المعارضين، من أقصى المتطرّفين الى أكثر الحواريين، بل يتأثّر هذا القرار كثيراً بأسلوب السلطة الحاكمة في مواجهة الأزمات، وكيفية مقاربتها للنزاعات وللاختلافات، ولقرارها الحقيقي، لبناء الدولة العميقة، أو لتثبيت سلطة "إلهام الزعيم".

إنّ كلفة الذهاب الى الثورة قد تكون غالية جدّاً على الشعب والوطن، في كلتَا الحالتين، أي في حالة نجاح الثورة، أو في حالة فشلها وبقاء السلطة الحاكمة. فباندلاع الثورة، يُصبح التغيير الجذري لمقوّمات وركائز الوطن هو الهدف الأساسي للثورة، ولكنّ النتائج قد تكون مُخيبة لها ومُعاكسة لمطالبها، أكانت نجحت بالوصول الى السلطة، أو استطاعت السلطة الحاكمة البقاء في مكانها.

امّا كلفة محاولة التغيير والإصلاح فمقبولة وطنياً، وفي حال نجاحها، تنحصر عذاباتها على الفريق الإصلاحي الذي يتلقّى الضربات من اتجاهين، من جانب السلطة المدافعة عن سلطويتها، ومن جانب الثوريين المختلفين عنه فكرياً وعقائدياً، ونجاح الإصلاحيين بمسعاهم يُشبه نجاح التلميذ المتفوّق الذي ينسى تعبه لحظة مكافأته بعلاماته. ولكن النجاح في الإصلاحات نسبي، فكلّما كان كبيراً، كلّما تمّ تجنيب البلد المآسي، وكلّما تناقصت انجازاته، كلّما دُفعت البلاد الى ثوراتٍ متفرّقة ومتعدّدة ومُكلفة وهدّامة، كما أنّ نجاح الإصلاحيين، يستفيد منه الثوريون لأنّ عملية الاصلاح تُؤدي تدريجياً لإضعاف السلطة، فقد قال هيرشمان: "الإصلاح هو تغيير تُكبح به سلطة مجموعة تتمتّع بإمتيازات، وفي المقابل تحسّن حالة مجموعات محرومة من حيث الوضع الإقتصادي والمكانة الإجتماعية". وأخيراً، كلّما فشل الإصلاح أو تناقص، كلّما عاد مشروع الثورة مع ويلاته ومآسيه.

أين الضمانة في نجاح الإصلاحات أو في نجاح الثورات؟

قد تكون فرصة نجاح الثورة كبيرة جداً، في حال استطاعت أن تتصاعد وتنمو وتتوحّد مقابل إضعاف القوى الداعمة للسلطة، ويساعدها في ذلك تضافر جهود عدد من القوى الوطنية الإجتماعية والسياسية والأمنية، أو إلتقاء مصالح بعض القوى الخارجية مع القوى الثورية. امّا في الإصلاح فلا وجود لرهاناتٍ خارجية، فالمسألة تبقى داخلية، وبنجاحها تسقط الأجندات الخارجية، وبسقوطها تنتعش الحسابات الخارجية.

خلاصة ذلك، يمكننا الإستنتاج بأنّ بين نجاح الثورات ونجاح الإصلاحات هناك اختلافات كبيرة في المخاطر والتكاليف والمراحل والمعاناة، وفي الخسارة هناك ايضاً اختلافات كبيرة في نسبة الأضرار، امّا العواقب فمتنوّعة وجذرية.

لا شك في أن نيّة وتمنّيات بعض الثوريين والإصلاحيين، كما الكثير من المدافعين عن السلطة، وخاصةً الأمنيين منهم، نجاح المساعي للتلاقي على النقاط التغييرية، لتجنيب البلاد الآلام والمواجهات، ولكن يبقى هناك فريق واحد فقط لا يتوافق مع الجميع على هذه الرؤية، وهو الزعيم "الملهم". هذا الزعيم الذي يرفض الإصلاح رفضاً تاماً لأنّه يقضي على سلطانه، ويواجه الثورة بشكلٍ قاطع، كونه يملك ترف الخسارة من رصيد الآخرين. هذا الزعيم الذي لا يعرف معنى الفشل ولا طعم الهزيمة، ليس لأنّه لم يتذوّقهما سابقاً، فكلّ أعماله فاشلة ورهاناته خاسرة، وكلّ مراحل حياته مليئة بالخيبات والهزائم، ولكنّها كلها كانت من رزق وحياة الناس، ومن مقوّمات الوطن، فالزعيم الملهم قد ألهَمَ، وخدع الناس لتأييد فشله ولدعم خياراته المميتة. فلا فرصة للإصلاح تُرتجى مع هذا الزعيم، والمواجهات الدموية ساحته المُفضّلة، لأنّ خياره للهروب هو مساره الأخير، فالإصلاح خسارة قاضية له، والثورات ضدّه حجّته للبقاء، فهو القاتل للإصلاح، وهو الخيار الخاطئ للشعب، وهو مشكلة لبنان "الزعيم الملهم". والطريق الأسهل والأسرع للخلاص منه ومن إرثه وذهنيته وخليفته ودماره الفكري، يكون بفرض الحلول الديموقراطية والتمسّك بالآليات الدستورية لتغيير الحكم الفاسد والفاشل، وركيزة هذا المسار الدفع لانتخابات نيابية مبكّرة، تُشكّل الخطوة الأولى للإصلاح، لأنّها تُحرّر الشعب من إلهام "الزعيم"، وتفتح الباب للمضي بالمحاسبة والتدقيق والكفاءات والمؤسسات، وببناء الجمهورية الحقيقية، كما تُبعد الثورة العنفية، بتحقيقها أهداف الشعب الثائر على الوضع المُذلّ المفروض من أداء الإلهام الخاطئ من "الزعيم المُخطئ" بحروبه وطروحاته وتحالفاته وأدائه وإدارته للبلاد.

MISS 3