د. هشام حمدان

الفكر اللبناني ما زال قاصراً عن قراءة المتحوّلات الدوليّة

16 شباط 2021

02 : 00

علّقت سيدة لبنانيّة، على تويت لشخصيّة إماراتيّة، فقارنت بين ما حقّقته الإمارات في الوصول إلى مدار المريخ، وواقع الحال في لبنان الذي يصل كما وعد رئيس البلاد، إلى جهنم. وردّت الشخصيّة الإماراتيّة: "لديكم شعب مميّز وقيادة فاشلة، ولدينا شعب عادي وقيادة متميّزة".

نعم تابعت عن كثب نجاحات الإمارات، وتطوّر علاقات دول الخليج مع المجتمع الدولي. وقد كان لافتاً بوضوح كيف أن الدول الأخرى في المنطقة، ولا سيما الدول الديكتاتوريّة في سوريا والعراق وليبيا، التي طالما تبجّحت بالممانعة والمقاومة والعلمانيّة، كانت تتجه إلى التفتّت القائم على الإعتبارات الطائفيّة والمذهبيّة، في حين أن دول الخليج المتهمة بإيواء الأصوليّات الدينيّة، تتجه نحو الإنفتاح وتعزيز مفاهيم التواصل الحضاري على أراضيها، واحترام الطوائف والمذاهب وحقوقها الطبيعية في ممارسة ثقافتها الدينية. لا بل أنّ دولاً كانت مؤثرة وفاعلة إقليمياً ودولياً، وتحديداً إيران وتركيّا، هي الآن بفعل الأصوليّات الدينية، في حروب مع العالم، وستدفع الثمن الكبير عاجلاً أم آجلاً. فلماذا هذا الواقع؟

السبب بسيط جداً. فدول الخليج واكبت التطور الدولي وما جرى بعد عام 1990، في حين أن الدول الأخرى خرجت عن هذا المسار، فلم تبق فقط في حالة ما قبل العام 1990، بل عادت إلى القرون الوسطى.

وفي لبنان، هذا البلد الذي كان واحة للديموقراطيّة والحريّات، ونموذجاً في انخراط شعبه وتفوقه في مسيرة المجتمع الدولي، واحترامه المؤسّساتي للشّراكة الوطنيّة بين الطوائف، نصل إلى جهنم. لماذا؟

ببساطة، السبب هو هذه القيادة الفاشلة. فهي استمرار للعواصف التي اجتاحت وطننا منذ عام 1968، عندما جرى تحويله ساحة للصراعات جرّاء ممارسة المعايير المزدوجة في النظرة إلى الحل المنشود للقضيّة الفلسطينيّة. فرغم توقيع اتفاق الطائف عام 1990 بهدف العودة بالبلاد إلى استقرارها، وجرى بناء على ذلك، إلغاء اتفاقيّة القاهرة، الرابط غير المقدّس مع تلك القضيّة، لم يتمكن لبنان من تنفيذ هذا الإتفاق، لأنّ سوريا أبرز دول "الممانعة والمقاومة والعلمانيّة"، التي كانت تتمتع بالوصاية عليه، لم تقرأ جيداً المتحولات الدوليّة، ففرضت عليه سلطة تحمي سياساتها التي اعتمدت غوغائية التسويات والمواجهات مع القوى الإقليمية والدوليّة بما في ذلك إسرائيل، وجعلته وشعبه، صندوق بريد لرسائلها إلى تلك القوى.

دفعت تلك الدولة أخيرا ثمن غوغائيتها وعدم قراءتها الدقيقة للمتحولات الدوليّة، فساهمت القوى الإقليميّة والدوليّة في طردها من لبنان عام 2005، ثم أسقطتها في صراعات داخليّة، أزالت هالتها السياسيّة، وأخضعتها إلى خريطة جغرافيّة جديدة، لا تسقط فيها مفاهيم "المقاومة والممانعة والعلمنة" فحسب، بل تنهي وحدة البلاد المعروفة وتقيمها على أسس فدراليّة طائفيّة قابلة للتقسيم في أي حين.

الحكم السوري لم يخرج جيشه من لبنان عام 2005، إلا بعد أن ساهم، بمواقفه الغوغائيّة، بتعزيز ميليشيات مقاتلة لم تكن تابعة له بل لحليفه الإيراني الذي كان وما زال، يمارس مثله المواقف. وسيأتي الوقت، تدفع فيه إيران أيضاً، ثمن تلك المواقف ما لم تتراجع عنها. إيران دولة مؤسّساتيّة ربما تستوعب الدرس السوري وغيره، لكنها ما زالت تطمح إلى ثمن لما قدمته من خدمات إراديّة أو غير أراديّة، في إعادة رسم جغرافيّة دول منطقة الهلال الخصيب. وهي تدفع إلى ذلك، من خلال ميليشياتها اللبنانيّة، فهل تجعلنا هذه الميليشيات ندفع أيضاً ثمن غوغائيتها؟

سعيت طويلاً إلى شرح المتحولات الدوليّة للقائمين على السلطة في لبنان. فقد عايشت خلال مهمتي في الأمم المتّحدة بين الأعوام 1987 و1999 تلك المتحوّلات. كما حذّرت بعد إنفجار الأوضاع الداخليّة في سوريا، من نتائجها التدميرية علينا، إذا لم نبعد أنفسنا عن الصراعات الجارية فيها، لكن عبثاً. فالأصوليّات الإيديولوجيّة التي لا تقل خطورة عن الأصوليّات الدينيّة، تحالفت مع بعضها وأبقت لبنان بؤرة مشتعلة، وأوصلت البلاد إلى حدود الدولة الفاشلة، فانهار النظام برمته. ورغم ذلك لم تتمكن قوى التغيير التي تبلورت في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، من إخراج لبنان من المأزق، لماذا؟

السبب أن هذه القوى تجهل أو تتجاهل، واقع التحولات الدوليّة التي حصلت. فأغرقت ذاتها بالبحث عن أسباب داخليّة لمشاكلنا وراحت تتنافس في ما بينها برمي التهم ضد هذا وذاك. اللبنانيون لا يلامون على ذلك، فهم كانوا يخضعون منذ عام 1990، إلى حصار فكري وثقافي وسياسي وأمني جعلهم بعيدين عن واقع التطّورات التي شهدها المجتمع الدولي، وأبقاهم بعقليّة الواقع لما قبل ذلك العام.

لبنان لن يخرج من النفق المظلم ما لم يدرك الطريق إلى المجتمع الدولي ويقنعه قبل كل شيء، أن الأصوليّات المختلفة المعبّر عنها بميليشيات وأحزاب مسلّحة وطائفية قائمة على السلطة، لا تمثل رؤية وطموحات الإنسان اللبناني الذي وصفته الشخصية الإماراتية بـ"المتميز". فكيف العمل على ذلك؟

علينا أن نعترف أولاً، أنّ المجتمع الدولي لا يهمه أن نقدم له الحلول لمشاكلنا الداخليّة بل التزامنا بالنظام الدولي. وهو يريد إزالة هيمنة القوى الخارجيّة على صناعة قراراتنا. علينا أن نقنعه أننا كنا ضحيّة. وأن الذهاب إلى حروب المنطقة لم يكن بإرادة طوعيّة. وأن نطالب بتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة بدءاً باتفاقيّة الهدنة وصولاً إلى القرار 1701 لعام 2006، والتأكيد على التزامنا بها. بل وبمساعدتنا في تحقيق حياد لبنان عن الصراعات الإقليميّة والدوليّة، وتنفيذ آلياته لبناء السلم بعد النزاع في وطننا من خلال دعم القدرات المحليّة والإغترابيّة اللبنانيّة، على إقامة نظام عام يستجيب للمتغيرات الدوليّة. عندها سنجد الحلول لكل مشاكلنا الداخليّة. اللبناني مميّز ولديه كفاءات رائعة. نحن وكما قالت نائبة ممثل الأمين العام في لبنان نجاة رشدي، من أغنى الشعوب؛ لأننا نملك الثروة البشريّة التي هي الأهم في صناعة التقدم لكل مجتمع.


MISS 3