إيفون أنور صعيبي

جورج قرم... "مرافعة" ضدّ الاقتصاد الريعي

4 أيلول 2019

02 : 00

الحرب أنواع؛ منها ما هو عسكري وسياسي، ومنها ما هو ماليّ ونفسيّ، وهو للمناسبة من أخطر الحروب في التاريخ المعاصر خصوصاً اذا مارستها الدولة على شعبها متسلّحة بـ"الريع غير الشرعي" تارة، وبالممارسات البعيدة عن الإصلاح والمرتكزة الى الضرائب العشوائية طوراً... من يحدّد السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد؟ كيف تمّ تحديد النظام النقدي وأين مكامن ضعفه؟ ما هي الإصلاحات الجدّيّة المطلوبة وكيف سنخرج من الأزمة الراهنة؟ وهل يمكن لاجتماعات بعبدا ان تنتج حلّاً؟ أسئلة يجيب عنها وزير المال الأسبق المؤرخ جورج قرم في هذه المقابلة.



من يحدد السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد؟

ان النهج المعتمد معروف منذ بداية السياسات الاعمارية التي مثلت انقطاعاً مع النهج الشهابي الذي كان سائداً في الستينات وحتى بداية السبعينات. وهي سياسات مبنية على الصفقات العقارية الضخمة وعلى مشروع سوليدير الذي يمثل ابادة تراثية نادرة في تاريخ العالم. أبشرت تلك الفترة بالازدهار لكنها في نهاية الامر أدت الى الوضع الذي نحن فيه اليوم. مع نهاية الحرب الاهلية كانت مديونية الدولة متواضعة بحيث لم تتعدّ ملياراً ونصف مليار دولار وكانت في الليرة اللبنانية.

بعد ذلك، بدأت مرحلة "الريوع غير الشرعية". حصل ذلك من خلال تحديد سعر الصرف وبالتالي تحديد أسعار مرتفعة على سندات الخزينة بالليرة ناهزت الـ 40% العام 1995، في حين راوحت الفائدة على الدولار بين 5 و6%. اذاً، كانت هذه اللعبة تتيح للمستثمرين ومن دون أي جهد انتاجي استدانة الدولارات بفوائد متدنية ليعيدوا توظيفها في سندات الخزينة مقابل نسب فوائد مرتفعة، وهذا ما سمح الى الاقلية تكوين ثروات هائلة.

الى ذلك، أدت التناقضات الناجمة عن اسعار الفوائد الهستيرية الى ضرب القطاع العقاري اواخر التسعينات لتصبح الازمة معقدة. عندما عُيّنت وزيراً للمالية كان هناك 150 ألف وحدة سكنية فارهة فارغة.

هل من الممكن انقاذ المنظومة الاقتصادية في ظلّ الاوضاع الراهنة؟

منذ ما بعد الاستقلال وحتى الساعة واجه لبنان 3 أزمات فتاكة: اولها معضلة بنك انترا الذي كانت ملكيته تعود لرجل اعمال فلسطيني الاصل. فازدادت غيرة المصارف اللبنانية لاحتلال مصرف غير لبناني المرتبة الاولى في السوق، ورغم جودة موجودات المصرف انخفضت سيولته بسبب امتناع مصرف لبنان عن مساعدته. تبع ذلك إفلاس 20 مصرفاً لبنانياً وانكماش الاقتصاد لنحو سنتين متتاليتين.

تمثّلت الازمة الثانية بهبوط سعر صرف الليرة في الثمانينات نتيجة المضاربات التي قادتها المصارف، ما أدّى إلى انهيار بعض المصارف الصغيرة بسبب انخفاض قيمة الديون في محفظاتها.

اما الازمة الثالثة وهي الاخطر فهي ما يحصل حالياً نتيجة العجوزات الكبيرة المُسجّلة في ميزان المدفوعات والميزان التجاري والتي لم يشهد لبنان لها مثيلاً.

اليوم، لا بد من اعادة النظر بالنموذج الاقتصادي واستبداله بآخر يؤمن للفئات المجتمعية كافة من الشمال الى الجنوب حياة محترمة بدلاً من تركز الثروات لدى فئات معينة وافقار الفئتين الوسطى والشعبية.

اين تكمن المشكلة في النظام النقدي المعتمد؟

ان النظام النقدي الذي اخترناه هو اساس المشكلة. انه نظام مجنون يولّد سيلاً من الايرادات التي لم تنتج عن زيادة في الانتاج. وكما ذكرت، فان اللعبة على مدى اعوام اقتضت الاستدانة بالدولار وتوظيفها في سندات الخزينة، فوق حاجة الخزينة الفعلية ما ادى الى تكوين دين عملاق. بعد الحرب الاهلية قدرت "شركة بكتل الاميركية" للهندسة والدراسات الاقتصادية كلفة اعادة الاعمار بـ2مليار دولار وليس 18 ملياراً وفقاً لحسابات مجلس الانماء والاعمار العام 1993. هذا نموذج بسيط عن كيفية التعاطي في الملفات الدقيقة والتي ورطتنا في مزيد من الدين والاكلاف الباهظة.

هل يمكن لاجتماعات بعبدا الاقتصادية ان تنتج حلاً للازمة؟

سبق ورأينا في موازنة الـ2019 عيّنة من انواع الحلول التي اقترحوها وهي زيادة الضرائب. في الواقع، لست ادري ان كانت حكومة تفرض حلولاً غير واقعية كزيادة الضريبة على النرجيلة قادرة على تقديم حلول فعالة وواقعية.

وبعيداً عن علم التنجيم، بات واضحاً انه في لبنان قلما انحدرت الطبقة الحاكمة الى هذا المستوى. صحيح انه في الاعوام الخالية تسببت النخبة الحاكمة بحرب اهلية ولكنها على المستوى الاقتصادي كانت تقدم سياسات ادت الى ازدهار ولو سمح للثروات ان تتركز في ايادي القلة.

ماذا تنتظرون من موازنة الـ2020 ومن مؤتمر سيدر؟

مع اتباع سياسة تثبيت سعر الصرف، تأسّس نظام المضاربة، المستمرّ حتى اليوم. درّت هذه اللعبة أرباحاً طائلة على أصحاب الرساميل، لكن على حساب النشاط الاقتصادي، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، وهو ايضاً ما أجبرنا على خوض تجربة سلسلة مؤتمرات باريس.

برأيي، فان سيدر لا يحمل اي نوع من النظرة التنموية. أين ستتوزع المشاريع؟ هل ستشمل عكار والضنية والهرمل والبقاع حيث بقع الفقر تتزايد؟ ام انها ستقتصر على الشاطئ اللبناني والوسط؟ الى ذلك فان سيدر ليست سوى بوابة لزيادة المديونية ولن تنجح في تحسين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية ولن يستفيد من هذه الاموال الا شركات المقاولات اضافة الى الشركات الاوروبية ولا سيما الفرنسية منها.

اما بالنسبة الى الموازنة المرتقبة فأستبعد ان تحمل أي جديد لا سيما وان الموازنة التي قيل انها تقشفية وانها حجر الاساس للاصلاحات لم تقم الا بجمع المتأخرات.

ما رأيــك بالسيــاسة النقدية المتبعة؟

تتشكل 80% من احتياطات مصرف لبنان من ودائع البنوك التجارية. اي انه وفي الواقع لا يملك المركزي اي احتياطي بالعملات الاجنبية بل انها ملك للمصارف التجارية وهذا امر خطير.

خلال الاعوام السابقة، تمثّل مصدر طمأنينة لبنان في كون ديونه مملوكة من قبل مصارف داخلية. لكن هذه الاخيرة راحت تسوق سندات الخزينة بالدولار في الخارج. وهذا ما قد يقودنا الى السيناريو الذي حصل في اليونان. فان تعثرنا في دفع مترتبات خدمة الدين سنكون عرضة لان تتحكم بنا جهات خارجية وعندها يفقد لبنان اي نوع من الاستقلالية النقدية لا سيما وان اجراءات صندوق النقد الدولي موجعة للفئات الشعبية.

بالعودة الى الليرة واستقرارها، والوظيفة التي يجب أن يقوم بها مصرف لبنان فان المهام المنوطة به محددة قانوناً وهي تقتصر على تأمين السيولة الداخلية للاقتصاد بأسعار معقولة، وتأمين استقرار الأسعار وعدم الدخول في حلقات تضخّمية.

نحن في وضع دقيق للغاية. اعتقد ان التفكير يجب ان يصب في توجه انقطاع نهائي مع الماضي وبناء نظام نقدي مستقبلي سليم. لا يمكن لذلك ان يتحقق الا من خلال تحفيز القطاعات المُنتجة التي تمتلك قدرة تنافسية وتسهم في زيادة التصدير، وبالتالي تأمين الدولارات بدلاً من سياسة الاستدانة والفوائد العالية، وتخفيض خدمة الدّين العام، وتخفيض أسعار الفائدة، ومن ثمّ إضفاء ليونة على سعر الصرف بحيث يتأرجح ضمن حدود أوسع يمكن فتحها بالتدريج.

ان السعر الثابت للصرف مضر بالاقتصاد. التأرجحات مهمة لمعرفة مكانة اقتصادنا الوطني. لا بدّ مستقبلاً من اعتماد نظام صرف عائم ليتأرجح سعر الليرة وفقاً للوضع الاقتصادي العام. كما ان على سعر الصرف ان يُحدد تجاه سلّة من العملات التي نستورد منها فلماذا يتم تحديدها مقابل الدولار في حين ان غالبية منتجاتنا مستوردة من الدول الاوروبية؟كيف نخرج من الازمة الراهنة؟

لا يمكن تخطي الازمة الا من خلال التغيير التدريجي لنظام النقد. وكما ذكرت، يتحقق ذلك من خلال ربط الليرة بسلة من عملات الدول التي نستورد منها وان يُفتح تدريجياً هامش سعر الصرف بغية الخروج من النظام الثابت والتحول الى نظام سعر صرف عائم. من شأن هذه الخطوة ايضاً ان تريح النظام المصرفي من جهة، ومن جهة ثانية تُجنب نسب الفوائد المجنونة. تكمن المشكلة في كون حجم النظام المصرفي يبلغ اربعة اضعاف حجم الناتج المحلي، وهذا الوضع يعتبر شاذاً لدرجة ان هذا النموذج غير موجود الا في الدول التي ليس لها اقتصاد.

الى ذلك، يجب التخلي عن اعتماد عملتين في الاقتصاد. يُجمع الاختصاصيون في الانظمة النقدية على انه يمكن لمصرف لبنان ان ينشئ مجلس نقد يلغي فيه العملة الوطنية ويقرّ التداول بالدولار بما ان نظامنا مدولر او فليسمح لليرة بالتأرجح لان انظمة سعر الصرف الثابتة قليلة جداً في العالم. وفي حال قرر اعتماد العملة المحلية فليقم بتقويتها. وذلك لا يمكن ان يحصل الا من خلال نهضة يُبنى الاقتصاد فيها على الانتاج وعلى التصدير.

باختصار، علينا التخلص من نظام ثنائية العملة الذي يلغي الجهد الانتاجي ويُعقّم الاقتصاد والذي يتيح للمتاجرين بسندات الخزينة او بالعقارات من تكوين ثروات.

اعتادت المصارف ان تجني ارباحها من الناتج المحلي الذي يشكل ربع حجمها، وهذا مناقض للعقلانية.

اما لناحية خفض العجز المطلوب في موازنة 2020 فلن يتحقق طالما يتم اتباع الطرق عينها في ادارة الاقتصاد، وطالما ان الفوائد المجنونة والتي أوصلت الدين العام الى ما هو عليه اليوم باقية على ما هي عليه.


MISS 3