د. ميشال الشماعي

بكركي تسترجع الكيانيّة اللبنانيّة

27 شباط 2021

02 : 00

نجح غبطة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بتحويل بكركي من حاضرة مارونيّة مسيحيّة إلى حاضرة لبنانيّة كيانيّة جمع فيها اللبنانيّين كلّهم. واستطاع سيّد الصرح أن يخطف الأنظار ويحوّل المشهد السياسي اللبناني. ولم تستطع السلطة تحوير الأنظار عن بكركي برغم ابتداعها ملفّات، بدت بالشكل أساسيّة لكنّ جوهرها فارغ مبني على أفخاخ نُصِبَت للإيقاع ببعضهم سرعان ما بانت النّوايا المخبوءة.

ولا يبدو من هذه اللحظة أن الموقف الذي اتّخذته بكركي ستتمّ فرملته والدّليل على ذلك أن لا حراك لمحاولة حرف الأنظار. فالأكثريّة الخاطِفة تدرك مدى جدّيّة دول القرار وتحديداً الفاتيكان، في مواكبة بكركي بطروحاتها كلّها. فلم تكن يوماً الدّولة مخطوفة في لبنان، أو مفلسة، أو مكشوفة أمنيّاً واقتصادياً وحتّى نقديّاً كما هي الحال اليوم. ففي أسوأ حالات لبنان بقيت نواة صغيرة في المنطقة المحرّرة حافظت على نواة المؤسسات للدّولة، وأولاها المؤسسة العسكريّة التي وحدها هذه المنطقة تجرّأت وسلّمتها سلاحها بحسب ما اتّفق عليه في الطّائف، وإيماناً منها بالعمل المؤسّساتي وبروحيّة ووجوديّة الدّولة اللبنانيّة.

من هذا المنطلَق، كرة الثلج بدأت تتدحرج، والفاتيكان يعدّ العدّة ليترأس المؤتمر الدّولي بناء على طلب بكركي كي لا تكون في صفّ أحد، ولتطبّق مبدأ الحياد النّاشط على نفسها أوّلاً. لذلك، لن تستطيع السلطة أن تمنع النّاس من التوجّه إلى بكركي يوم السبت، مهما حاولت من ممارسات ولو حتّى بحسب القانون، ولو استغلّت مبدأ الأذونات على منصّاتها كلّها. فالنّاس ستصعد سيراً على الأقدام. ولنا شخصيّاً في ذلك تجارب مرّة تجاوزناها بعزمنا يوم كنّا ننظّم ونشارك في قداديس شهداء المقاومة اللبنانيّة، من سيدة إيليج إلى حريصا. فلم تستطع وقتها سلطة الاحتلال، ومعها الأجهزة الأمنيّة كلّها، منعنا من الوصول إلى هدفنا المنشود.

يبقى أنّ بعد يوم السبت لن يعود مقبولاً الفتور بالمواقف تجاه موقف بكركي ولا من أيّ شخصيّة أو حزب أو تحرّك ما يعتبر نفسه كيانيّاً صميماً، وضنيناً بلبنان، وبقائه في هذا الشرق. فالدّعم السياسي لبكركي تمّ ختمه بخاتم أكبر شريحتين كيانيّتين في لبنان. والمطلوب بعد السبت أن يتمّ التصديق على ما تطلبه بكركي من الذين ساروا في ذلك الـ14 من آذار يوم أعلنوها معركة لاسترجاع السيادة والحرّيّة والاستقلال ونجحوا في 26 نيسان 2005 بإخراج الجيش السوري.

كذلك المطلوب من الذين حملوا رغيفهم المشطور في 17 تشرين 2019 أن يوحّدوا صفوفهم ويسيروا خلف مطالب بكركي لأنّها وحدها تستطيع أن تسير في لبنان نحو دولة مدنيّة ودستوريّة لا سيادة فيها إلا سيادة القانون والدّولة تحت سقف "كلّن، يعني كلّن " للمحاسبة تحت سلطة القانون. والمطلوب من الذين يرهنون أنفسهم لضرب مصداقيّة بكركي أن يعودوا إلى رشدهم الوطني، مع يقيننا بأنّ تاريخهم يشهد منذ 5 تشرين الثاني 1989 وحتّى اليوم، ولن يتبدّل. لكن نأمل بأن يستيقظ ضميرهم الوطني ليعودوا حيثما تريدهم بكركي أن يكونوا، وليس حيثما تريدهم الثلاثون من فضّة أن يكونوا، لأنّ شجر التين في هذه الأيّام أغصانه غضّة لا تحتمل المشانق.

المؤسف في ذلك كلّه أنّ بعضهم لم يدرك بعد أنّ الحرب اليوم هي الأخطر التي يمرّ بها لبنان لأنّ مدلولاتها حضاريّة. ولا تقتصر على معركة من هنا أو احتلال شبر أرض من هناك. هي معركة كيانيّة وجوديّة في محاولة لتغيير الكيانيّة اللبنانيّة التي نجح "حزب الله" بمباركة حليفه في 6 شباط 2006 باختطافها. ولقد أيقن الحزب بأنّه لن يستطيع أن يخرق فكريّاً إلا بقوة السلاح، حيث نجح بالدّخول تحت ذريعة سرايا المقاومة، وراح يستغلّ المناسبات الدّينيّة المسيحيّة بالتّحديد ليشوّه المفاهيم اللاهوتيّة ويحرفها عن جوهرها في محاولة لإسقاط أيديولوجيّته فكريّاً على الذين يرضخون له فكريّاً. وهذه المسألة هي الأخطر.

وأدرك الحزب اليوم بأنّ التصدّي الكياني الذي تقوده بكركي لا يمكن مواجهته بما قام به طوال هذه السنين كلّها. بمعنى آخر، إنّ بكركي مع البطريرك الراعي قد نجحت بإبطال مفاعيل الحرب الحضاريّة التي قادها الحزب منذ تأسيسه وحتّى اليوم على اللبنانيّين كلّهم، يوم قالت هي ما قالته وسارت نحو الحرّيّة. وللذين يسخرون من الفاتيكان ويتبجّحون بفشل المجتمع الدّولي، ومدى الخيبة التي تركها في نفوس اللبنانيّين، لا سيّما المسيحيّين منهم على مرّ التّاريخ، نحيلهم إلى ما قاله البابا فرنسيس عندما استقبل السفراء المعتمدين في الفاتيكان أخيراً حيث خصَّ لبنان بأطول وقت في رسالته أمامهم، وقال بشكل واضح إنه: "لا يجوز أن تستمر هذه الأزمة، ونحن معنيّون بالمسألة اللبنانيّة، وبشكل أساسي بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر”.

لذلك كلّه، وتفادياً لمضيعة الوقت، على اللبنانيّين أن يبحثوا جدّيّاً في إشكاليّة جديدة مضمونها: ماذا بعد الحياد؟


MISS 3