د. ميشال الشماعي

القضاء على القضاء

26 نيسان 2021

02 : 00

لا يمكن الحديث عن القضاء من دون الرجوع إلى أمثال رئيس الوزراء البريطاني في زمن الحرب الكونيّة الثانية الذي قال: "طالما القضاء في بريطانيا بخير يعني أنّ بريطانيا كلّها بخير". ففساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة بحسب الفيلسوف إبن خلدون. ولا يمكننا في لبنان أن نستعيد الدّولة من دون الاصلاح الرئيسي الذي يجب أن يبدأ من القضاء. ولا يمكن الحديث عن قانون استقلاليّة القضاء من جهة سياسيّة ما، وهذه الجهة عينها تقفل الدرج على التشكيلات القضائيّة التي وحدها تشكّل نقطة انطلاق إصلاح القضاء وتطهيره، للإنطلاق بعدها إلى المحاسبة في الميادين كافّة.

من هنا، يُعتَبَرُ القضاء المدخَل الأساسي لكلّ إصلاح، وتحوير دوره لجهة سياسيّة ما، يعني بطريقة غير مباشرة تغليب هذه الفئة على غيرها من الفئات في الدّولة، وبحجّة التحايل على القانون. وهذا ما سيؤدّي تِباعاً إلى تحوّل نظام البلد من ديموقراطي ليبرالي إلى ديكتاتوري أحادي يشبه إلى حدّ ما زمن الحقبة النّازيّة. ففي تلك الفترة نجح أدولف هتلر بتطويع القضاء يوم عيّن "فرانز غارتنر" وزيراً للعدل، ولم يصبح هتلر مستشاراً إلا بفعل تحايله بالسياسة على القانون، ونجح بالسيطرة على ألمانيا بالدّيموقراطيّة نفسها.

لذلك، لا مدخل إلى أيّ تغيير سوى بالانتخابات النيابيّة. حتّى أعتى الدّيكتاتوريّين استخدموا الديموقراطيّة والانتخابات ليسيطروا على الحكم. وهذه الأكثريّة ما صارت أكثريّة إلا بتحايلها على الدّيموقراطيّة وبالانقلاب عليها بالقوّة كما حصل في السابع من أيّار 2008، لتنتج تحت ضغط السلاح اتّفاق الدّوحة، وتكرّس سيطرتها التي طوّرتها تباعاً بالترهيب والترغيب على مفاصل الحكم كلّها. وبقي القضاء الذي نجحت بتعطيله يوم أسرت في درج الرئاسة الأولى التشكيلات القضائيّة. ونحن اليوم على مشارف انتهاء ولاية المجلس الأعلى للقضاء.

وهذا يعني أنّ هذه الأكثريّة تخطّطُ لتعيين مجلس أعلى للقضاء يشبهها لتعمل بعدها على تغيير التشكيلات التي وضعها الرئيس سهيل عبّود بتشكيلات تشبهها أيضاً. وهكذا تكون قد سيطرت على القضاء، وبقوّة القانون الذي تحايلت عليه. وعندها حتّى حريّة الرأي والتعبير قد تصبح في مهبّ الريح. وعلى حدّ قول المثل الرّوسي "ليس القانون هو ما يخشى بل القاضي". وسنعود حتماً إلى الاطباق على الحريّة الشخصيّة الكيانيّة لقمع أيّ ثورة في مهدها قبل ولادتها. لا سيّما وأنّ بوادر المواقف من التمرّد الذي ارتكبته القاضية غادة عون، برفضها الامتثال للقرار القضائي، من خلال الدّعم المباشر وغير المباشر للرئيس وتيّاره لما قامت به، تنبئ بتحلّل سلطة القضاء التي من دونها لا قيام لأيّ دولة.

فللعدالة بنظر هؤلاء مفهوم آخر يتواءم مع مفهوم السير "أشعياء برلين"، وهو منظر اجتماعي، وسياسي، وفيلسوف، ومؤرخ روسي - بريطاني، من أهّم مفكري القرن العشرين، والباحث الليبرالي الأبرز من أبناء جيله الذي قال: "غالباً ما تعني الحرية بالنسبة إلى الذئاب الموت للأغنام". هذا ما تريده هذه السلطة. تريد أن تقضي على أبنائها.

- أوليست هي مَن قالت لهم: "مَن لا يعجبه لبنان هكذا فليهاجر!"

- أوليست هي التي هندست لوزرائها بنوكاً لينهبوا المال العام؟

- أوليست هي نفسها التي علمت بوجود 2750 طنّاً من النيترات المتفجّر في بيروت ولم تكلّف نفسها للتحرّي عنها لمداهمتها؟

- أوليست هي نفسها التي نهبت ودائع النّاس بمنحها سلفاً لأزلامها في صفقات الهاتف والبواخر والكهرباء؟

- أوليست هي نفسها التي فتحت حدود لبنان للمهرّبين لتنقذ إقتصاد نظام الأسد الذي تفاخرت يوماً بالقرار 1559 للقضاء عليه، وعادت هي نفسها بعد اتّفاق الدّوحة في العام 2008 وقدّمت الطّاعة له في بلاط الشام؟

- أوليس فخامة الرئيس نفسه مَن كتب بقلمه في سلسلة من 12 مقالة سنة 2000 حملت عنوان "المآثر السورية في لبنان"، وقال في إحداها: "لقد اختبرنا النظام السوري في حال الاسترخاء، ولم يُرِدْ أن يعترفَ بأنَّ في لبنان مشكلة، لذلك لم يُرِدْ أن يحاورَ، واستمرّ لاطماً بيديه ورافساً برجليه. إنّ سوريا تعمل على تذويب الكيان اللبناني وضمّه، ولا تزيح قيد أنملة عن هذا الهدف". فهل صار الأسد ونظامه اليوم ضمانة للكيانيّة اللبنانيّة؟

- أوليس هو نفسه مَن أعطى الأوامر بالانقضاض على ثوّار 17 تشرين، عاد وشجب تصرّفات الجهات الأمنيّة مع متظاهريه في عوكر؟

- هل للإعتداء على الملكيّات الخاصّة في عوكر نكهة مختلفة عن الاعتداء على الملكيّات الخاصّة في وسط بيروت؟

فالخطورة في ما حدث كلّه تكمن في تحوّل هذا الاعتداء السافر على هيبة القضاء، وتقويضه لجهة سياسيّة معيّنة، إلى عدوى سرطانيّة سرعان ما ستهدم ما بقي من مؤسسات في الدّولة. فبزوال العين الساهرة على تطبيق الدّستور أي القضاء، سيتحوّل دستورنا إلى عدم. والأخطر في كلّ ما يحدث أيضاً هو انكشاف الدّولة بعدما فقدت أجهزتها الأمنيّة هيبتها لأنّ تصرّفها لم يعجب فريق السلطة، وهذا ما سيسمح بالتطاول عليها من قبل مَن يملكون السلاح غير الشرعي. وهم معروفون.

ختاماً نستذكر ما قاله فيلسوف لبنان، جبران خليل جبران: "لقد علمت بأن الإنسان وإن ولد حرّاً، يظلّ عبداً لقساوة الشرائع التي سنّها آباؤه وأجداده، وأنّ القضاء الذي نتوهّمه سرّاً علويّاً، لهو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى أميال اليوم. "فالقضاء على القضاء بدأ بتحويله إلى "سرٍّ علويٍّ"، ولن نستسلم لما نجحت به هذه السلطة بالأمس، لا القريب ولا البعيد، ولن نسمح لغدنا الآتي أن يكون رهينة لغطرستهم اليوم. ومَن له أذنان للسماع فليسمع!


MISS 3