د. ميشال الشماعي

صراع كيانيّتين لا يُنتِجُ وطناً

5 أيار 2021

02 : 00

لا يُخْتَصَرُ المسيحيّون في لبنان بشخصٍ واحد، أو حتّى بحزب واحد. ويكفي العودة إلى تاريخ هذا الشعب في هذه الأرض لنتّعظ جميعنا كلبنانيّين كيانيّين في كيفيّة الصمود، والمقاومة، والتصدّي للحفاظ على الوجود الحرّ في لبنان والشرق. ومخطئ مَن يظنّ اليوم أنّه يستطيع أن يعمّم فشل شخصيّة سياسيّة مسيحيّة على فشل المسيحيّين كجماعة حضاريّة موجودة منذ فجر التّاريخ في هذه الأرض.

من البديهي أنّ الواقعيّة السياسيّة تقتضي الاعتراف بأنّ لبنان اليوم كما هو لا يشبه لبنان الذي قام منذ مئة عام، بفضل نضال المسيحيّين في الوصول إلى الكيان وبعده إلى الدّولة، وبعدها إلى الجمهوريّة. لكن الحالة التي وصلنا إليها اليوم تكمن في نجاح بعض المسيحيّين، وبالتّحديد الذين تعاملوا مع نقيض مشروع لبنان البطريرك الياس الحويّك، أعني هنا الوزير باسيل وفريقه السياسي مجتمعاً، لا سيّما بعد العام 2016. وقبل ذلك بكثير، أي منذ تاريخ 6 شباط 2006 يوم وقّع عمّه، رئيس التيار الوطني الحرّ، العماد عون، وثيقة التفاهم مع "حزب الله".

الصراع الحقيقي اليوم ليس في إثبات نظريّة فشل المسيحيّين في المحافظة على الدّولة التي بنوها طوال مئة عام، بل الحقيقة تكمن في إثبات فشل وجود هذه الصيغة الكيانيّة التي قام على أساسها لبنان 1920. ولقد حاول الاعلام الأصفر ضخّ الأضاليل حول فشل مفاتيح الوجود المسيحي، في تثبيت هذا الوجود في أرض لبنان، من الارساليّات الدينيّة إلى المدارس والجامعات والمستشفيات. لكن المفارقة في مَن هم من غير المسيحيّين يتهافتون على المؤسسات التي أسّسها المسيحيّون لينهلوا منها ما استطاعوا.

لا يا سادة. المسيحيّون ليسوا اليوم في عصر الانحطاط، ولو أنّ الاستغلال الديموغرافي السلبي مستشرٍ بحقّهم في لبنان. صحيح أنّ الظلم قد طال وجود العنصر المسيحي في مؤسسات الدّولة طوال السنوات الثلاثين التي تلت الحرب، لكن لا يكون إشراك المسيحيين في المحاصصة والزبائنيّة والفساد استرجاعاً لحقوقهم. المسيحيّون استعادوا حقوقهم يوم برهن بعض مَن شارك منهم في مؤسّسات الدّولة عن مناقبيّته ونظافة كفّه. لا عكس ذلك تماماً. فأولئك الذين نسجوا صفقات البواخر، والسدود الفارغة، وشبكات الألياف الضوئيّة لم يقدّموا سوى المزيد من الانحطاط الذي بدأوه يوم بدأوا هم ذاتهم العمل في الشأن العام. وهذا الانحطاط الذي حقّقه هؤلاء سمح لهم بتحقيق هذه الأكثريّة التي بُنيَت على باطل. وكلّ ما بُنيَ على الباطل فهو نفسه باطل.

الوجود المسيحي الحرّ ليس محصوراً بالمسيحيّين وحدهم. بل ما نجح به المسيحيّون في لبنان هو أن يرتقوا مع مَن يشبههم بالكيانيّة اللبنانيّة إلى الحريّة الكيانيّة الشخصيّة الأصيلة. فبات لبنان بأسره يعني الحريّة. وهنا جوهر الخلاف. فوجود "حزب الله" اليوم بات واضحاً بأنّه خارج هذه الكيانيّة. فهو لا يرى نفسه فيها، وهي لا تمثّل وجوده الأيديولوجي العقائدي المرتبط بولاية الفقيه في إيران. وعاونه بذلك حزب مسيحيّ قدّم له الطّاعة وثبت فشله في إدارة الشأن العام ليثبَّت هيمنة الحزب على الدّولة بأسرها. وهنا انبرى هؤلاء ليعلنوا انتهاء الكيانيّة اللبنانيّة، وبالتحديد الوجود المسيحي في دولة لبنان الكبير التي بناها المسيحيّون أنفسهم.

وما هيمنة "حزب الله" على بعض الصحافة والاعلام اللبنانيّين إلا بفضل معونة هؤلاء واستكمالاً منه لما بدأه في العام 2006. لكن ما لا يعرفه هذان الطرفان أنّ الحريّة لا يمكن سجنها في قفص مهما حاولوا. فحريّة الرأي التي فشلت هذه الثنائيّة الحقيقيّة بالاطباق عليها حتّى في أعتى سنوات الاحتلال السوري، فهي لن تنجح بالاطباق عليها اليوم. وما اختفاء أصوات البيئات المسيحيّة للمجموعات الحضاريّة المتعدّدة كالسريان والأرثوذكس والكاثوليك والأرمن وغيرهم إلا لأنّهم اعتقدوا بأنّ تمثيلهم في تكتّل كبير سيؤمّن لهم ديمومة الوجود، ليتبيّن لهم مجتمعين بأنّ حرباً إلغائيّة مارسها عليهم رئيس التيّار اليوم وباتوا مهمّشين. وليعلم هؤلاء جميعهم بأنّهم لن يجدوا حرّيّتهم الوجوديّة فرادى بل مجتمعين في حزب يحترم أصول تمثيلهم الحرّ. والنماذج الحزبيّة السياسيّة موجودة وحيّة وفاعلة في لبنان اليوم.

هذا الصراع الكياني لا بدّ أن ينتهي. ولقد قادت بكركي نهاية هذا الصراع. فهي نقلت الوجود المسيحي من مرتبة الوجوديّة الفئويّة إلى مرتبة الكيانيّة اللبنانيّة التي باتت تعني الحريّة في الوجود معاً. ولطالما بكركي مثّلت وجدان لبنان، لذلك حاول هذا الفريق نقل كرسيّ أنطاكيا إلى براد وبالطبع فشل لأنّه لن يستطيع تزوير التاريخ. تاريخ كفرحي وبكركي ووادي قنّوبين. نعم، المسيحيّون لم يعودوا كما قال بشير الجميّل: " قدّيسي هذا الشرق وشياطينه" بل استطاعوا مع مجد بكركي والسياديّين الذين حملوا إرثها أن يجعلوا من اللبنانيّين الأحرار مجتمعين: "قدّيسي هذا الشرق وشياطينه." ونقلت بكركي اللبنانيّين مجتمعين من " الشعب الطزّ" الذي أراد هذا المحور أن يكرّسهم بهذه الصفة إلى شعب على مدى التّاريخ يعرف ما يريده من التاريخ ومن الجغرافيا. لذلك سمّاه فيلسوف الفلسفة اللبنانيّة الشاعر سعيد عقل: "الشعب العظيم".

لذلك كلّه، لن نسمح لهذه المنظومة التي تعمل ليل نهار على تبديل الهويّة اللبنانيّة من العمق الاستراتيجي العربي – الخليجي إلى سوق مشرقيّة من بيروت إلى الشام فبغداد وطهران، ومن الواجهة الغربيّة الفاتيكانيّة الأوروبيّة الأميركيّة إلى واجهة شرقيّة من يعلم إذا ما قد تقف عند حدود سور الصين! وهذه الأنا المتورّمة التي يعاني منها مَن نسج لهذه الهويّة قد انفجرت على أعتاب بكركي يوم حمل السياديّون الكيانيّون الأحرار مشروعها الحضاري في استعادة دور لبنان الرسالة.

وبعض من استعطى السلطة عند أعتاب الضاحية وأسوار الشام وطهران سيسقط حتماً لأنّه لم ينَل شرعيّة وجوديّته من صلب الشعب اللبناني الحقيقي، بل هو نالها ممَّن استطاع خداعهم. ولكنّ شمس الحقيقة قد انجلت وكشفت زيف هؤلاء. وضحالة تمثيلهم الذي فرغ من مضمونه بعد فراغهم هم أنفسهم من مضامينهم الوجوديّة السياسيّة والوطنيّة. حتّى وصل الأمر بهؤلاء إلى استجداء السلام المستور مع العدوّ المنهور.

نجح المسيحيّون بنقل لبنان من كنف العقيدة المسيحيّة إلى كنف العقيدة اللبنانيّة. فلبننوا الدّولة فيه بعدما نجحوا بلبننة الكيان. وهنا بيت القصيد. وهذا ما بات غير مقبول بعهد السلاح القوي والقضاء المستضعَف. لكنّه باطل وحتماً سيزول لأنّه لا وجود في لبنان إلا للكيانيّة اللبنانيّة. وغير ذلك لا محلّ له في وطن الأرز.