مشروع "السدّ" على النيل يؤجّج خلافات إثيوبيا ومصر

09 : 57

من المقرر أن تفتح أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في إفريقيا أبوابها خلال السنة المقبلة في إثيوبيا. لكن أصبح هذا المشروع على طول نهر النيل الأزرق سبب خلاف في المنطقة، إذ يخشى المصريون أن يعيق وصولهم إلى المياه ولا يريد السكان المحليون تغيير مكان إقامتهم.

انتشرت ملايين أطنان الإسمنت تحت قدمَي أنتينيه مسفين. وقف هذا المهندس البالغ من العمر 29 عاماً فوق الجدار الساند لسدّ النهضة الإثيوبي الكبير الذي يبلغ ارتفاعه 155 متراً. كان النيل الأزرق يتلألأ تحت أنتينيه بمسافة كبيرة. يخطط المهندس وزملاؤه لقطع تيار المياه البنّية بعد فترة قصيرة.

مدّ المهندس الشاب ذراعَيه وأشار إلى وادي النيل (عرضه 10 كلم) حيث كان أحد الرعاة يقود قطيعاً من الماعز. بدا الرجل ضئيل الحجم من فوق. قال أنتينيه إن المياه ستغمر هذه المساحة كلها قريباً.

يعمل أنتينيه في أكثر مواقع البناء إثارة في إفريقيا على الأرجح. حين يمتلئ الخزان، سيصبح أكبر من بحيرة "كونستانس" الألمانية بثلاث مرات، حتى أن عمقه يتجاوز المئة متر في بعض المناطق. ضغط المياه فيه مُصمَّم لتشغيل 16 توربيناً وتوليد 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء في الظروف المثالية. لا تستطيع أي محطة كهرباء في أوروبا أن تضاهي هذا المستوى.

بفضل هذا المشروع، يمكن تلبية حاجات سكان البلد (105 ملايين نسمة) إلى الكهرباء دفعةً واحدة، وستتبقى كمية كافية لتصديرها إلى الخارج.

يعتبر منتقدو سد النهضة الإثيوبي الكبير أن الخلايا الشمسية تستطيع توليد الكمية نفسها من الكهرباء ضمن مساحة أصغر بكثير. لكن فيما يتابع جنوب إفريقيا حرق الفحم، وتحلم كينيا باكتساب طاقة ذرية، وتغرق نيجيريا في الدخان المتصاعد من مولدات الديزل، من المتوقع أن يوفّر هذا السد طاقة متجددة بنسبة 100% في إثيوبيا.

يكشف المنظر من الفضاء المواقع التي فشلت فيها التنمية الاقتصادية الإفريقية في تحقيق أهدافها. باستثناء عدد صغير من المدن، لا تزال القارة قاتمة عموماً. صحيح أن شوارع الإسفلت وسكك الحديد وناطحات السحاب أصبحت قيد البناء، بفضل التمويل الصيني بشكلٍ أساسي، لكن من دون الكهرباء لا يستطيع أي قطاع بارز، سواء كان رقمياً أو صناعياً، أن يحقق النجاح المطلوب. ما من كهرباء كافية، ومن دونها لن يصبح أي بلد جزءاً من اقتصادات النمور الإفريقية الشهيرة. من هذا المنطلق، ظهرت فكرة إنشاء السد.

تبدو مخاوف سكان الأرياف سخيفة مقارنةً بهذه الأهداف الضخمة. من موقع الجدار الساند، أشار أنتينيه بإصبعه نحو الراعي وقطيعه وقال: "لن يبقى أي رعاة هنا. سيحتاجون إلى مركب"!

يكتفي سكان بلدة "إيرينغ" الواقعة على طرف النيل الأزرق، على بُعد 30 كلم من السد، بسحب المياه. ثم يتركونها تستقر إلى أن تنزل الرواسب إلى أسفل وعاء بلاستيكي قبل أن يشربوها. ارتشف طه عبدالله (50 عاماً) المياه من وعاء معدني مسطّح رغم وجود حبات رمل في أسفله. ثم مرر الوعاء إلى الآخرين. مياه النيل لذيذة!

المياه مرادفة للحياة! لكنّ مياه النيل التي يستعملها طه وعائلته، كما فعل أسلافهم، ستتجرد قريباً من مظاهر الحياة التي عرفوها في "إيرينغ". ينتمي طه وجيرانه إلى جماعة القماز. جلس الرجل على طرف سرير من قش، تحت خيمة قماشية، وشرح معنى النهر بالنسبة إليهم: تغسل النساء الذهب هناك، ويقفز الشبان فيه أو يصطادون السمك. حتى أنهم يطاردون التماسيح أحياناً بحبال وسنارات سودانية. لكن سترتفع المياه هناك قريباً.

في موسم الجفاف، تتجاوز المياه البنّية الجدار الساند عبر فتحتَين في السد، من دون أي رادع. لكن ما من ثغرات أخرى في هيكل السد. يبلغ طول أدنى جزء من الجدار الساند أصلاً 25 متراً. ورغم الفتحات، تشكّلت بحيرة كبيرة هناك في موسم الأمطار في العام 2018، وتغمر كميات هائلة من المياه الجارية أدنى نقطة من الحاجز.

الجدار مُصمَّم كي يتجاوز عتبة الستين متراً بعد موسم الأمطار. تستطيع أول توربينتَين أن تبدآ بإنتاج الكهرباء في أواخر العام 2020. في تلك المرحلة، لن يبقى شيء على حاله في "إيرينغ".

يقول طه: "حين تصل المياه، سنغادر طبعاً". سيضطر مع أفراد عائلته لتغيير مكان إقامتهم، بغض النظر عما تفضّله زوجته وابنتاه: "سيرافقني الجميع أينما ذهبت. في النهاية، لن يستطيعوا العيش تحت المياه".

خطة ضخّ المياه

إفريم ولدكيدان (42 عاماً) يقرر من يبقى في هذا المكان ومن يغادره. إنه كبير المهندسين في مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير، وقد أكد على مغادرة كل من سيتأثر بأول مرحلة من امتلاء السد.

لم يتغير الجدول الزمني لتنفيذ المشروع، إذ من المقرر أن يبدأ تشغيل أولى التوربينات في كانون الأول 2020.

لا يزال عدد سكان الوادي الذي سيختفي تحت الخزان محط جدل. سيرتفع مستوى المياه حتى 120 كلم بالطول و50 كلم بالعرض. يزعم إفريم ومسؤولون حكوميون أن 5 آلاف شخص يقيمون هناك وسبق وغادر معظم المتضررين المحتملين. لكن عند التجول في أنحاء الوادي في شهر نيسان من هذه السنة، لوحظ أن الناس هناك ما زالوا يرعون المواشي، أو يعملون أمام خِيَمهم، أو يأخذون قيلولة في الظل.

يدّعي ممثلو المقيمين في الوادي من جهتهم أن عدد السكان هناك يبلغ 15 ألفاً على الأقل. حتى أنه يصل إلى 20 ألفاً وفق استطلاع أجرته العالِمة الأميركية جينيفر فيلو منذ بضع سنوات. يصعب التوافق إذاً على رقم دقيق. يزعم الناشطون في مجال حقوق الإنسان ضمن منظمة "إنترناشونال ريفرز" أن السلطات الإثيوبية أوقفت تحقيقات عدة في الوادي.

أثبتت الحكومة الإثيوبية في مناسبات عدة أنها لا تهتم كثيراً بالفئات التي ستتضرر من المشاريع التنموية الرامية إلى تعزيز التقدم في البلد. ذكر "معهد أوكلاند" الأميركي البحثي أن مشاريع الزراعة والسدود في الوادي، داخل المسار السفلي لنهر أومو في جنوب شرقي البلاد، أدت في نهاية المطاف إلى تهجير الناس من دون أن يتلقوا أي تعويضات.

لكن تتعلق أكبر مخاوف الحكومة بعدم معرفة توقيت امتلاء الخزان لتوليد ما يكفي من الكهرباء. تشتق أهمية النيل من التقاء النيل الأزرق مع النيل الأبيض في السودان خلال موسم الأمطار، بين شهرَي حزيران وأيلول. هذا ما يجعله الشريان النابض للسودان وبدرجة أهم لمصر. لذا يشكّل هذا المشروع مصدر نزاع محتدم.

معركة على المياه

كشفت دراسة إثيوبية من العام 2014 أن الخزان سيُسبب مشاكل لمصر. حين يمتلئ، ستبقى معظم كمية المياه في إثيوبيا. ورغم وجود روافد أخرى، من المتوقع أن تتراجع إنتاجية سد أسوان العالي في مصر (أكبر سد لإنتاج الطاقة الكهرومائية في إفريقيا حتى الآن) بنسبة 12%، ولا تزال مصر غير مستعدة لتقبل هذا التغيير.

لذا أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة، بعد بضعة أسابيع على تولّيه منصبه: "أقسم لكم، لن نؤذيكم بأي شكل"! لكن لم يكن كلامه مفيداً.

نظراً إلى انعدام ثقة مصر بالحسابات الإثيوبية، تعمل شركتا هندسة فرنسيتان على طرح توصيات جديدة للأطراف الثلاثة حول كيفية ملء الخزان بطريقة تناسب البلدان المتجاورة كلها. هذه المحاولات مستمرة منذ العام 2016، لكن لم يتم التوصل إلى أي اتفاق بعد.

تتعلق مشكلة أخرى بالتكاليف الضخمة التي بلغت مستويات قياسية بسبب الفساد في المقام الأول وعدم كفاءة "شركة المعادن والهندسة" ("ميتيك"). تباطأت أعمال البناء طوال أشهر متواصلة في السنوات الأخيرة لأن هذه الشركة التي تملكها الدولة ويسيطر عليها الجيش وعدت بالكثير ولم تنفذ إلا القليل.

اعتُقل عدد من مدراء "ميتيك". وبعدما خسرت الشركة الحكومية هذا المشروع، تدخلت الشركات الصينية لاقتناص الفرصة. وُجِد سيمغنيو بيكيلي، رئيس المهندسين القديم الذي يعتبره الكثيرون في إثيوبيا عراب المشروع، ميتاً في سيارته في وسط العاصمة، في أواخر تموز 2018، بعد تعرّضه لإطلاق نار في رأسه. قيل في التحقيقات الرسمية إنه انتحر.

في نيسان 2019، أمر الرئيس آبي بالتدقيق بالحسابات. كان قد صُرِف حتى تلك المرحلة مبلغ 3 مليارات يورو على بناء السد. اليوم، أصبح نشر الإسمنت الأقرب إلى الانتهاء وتزعم الحكومة أن ثلثَي الأعمال المتعلقة بالسد اكتملت.

وجدت الحكومة طرقاً مبتكرة لتمويل مشروع السد: طوال سنوات، امتنعت إثيوبيا عن دفع أجور شهر كامل لجميع الموظفين الحكوميين، من جنود وضباط شرطة وأساتذة، وحتى المهندسين العاملين في موقع بناء السد. كما أنها نظمت اليانصيب، وفرضت رسوماً على تعليم الأولاد، وباعت السندات الحكومية محلياً ودولياً. اليوم، يُفترض أن يسدد الإثيوبيون مدفوعاتهم مجدداً، لكنّ المبالغ هذه المرة أكبر بكثير. لإنهاء الجدار والتوربينات بحلول العام 2022، تحتاج الحكومة إلى ما يقارب أربعة مليارات يورو إضافية من شعبها.

بقدر ما يحب الإثيوبيون هذا السد المرتقب، لا يريد الكثيرون منهم دفع أي مبالغ إضافية. وحتى الصحيفة الحكومية الناطقة باللغة الإنكليزية "إثيوبيان هيرالد" ذكرت أن 48% من السكان يريدون من الحكومة أن تتابع البناء من دون أخذ الأموال منهم. قد تكون هذه التقديرات أقل بكثير من الأرقام الحقيقية.

لكن في ظل الاضطرابات السياسية، تحتاج الحكومة إلى السد لاستعماله كرمزٍ وطني أكثر من أي وقت مضى. يناضل آبي راهناً لترسيخ الوحدة الإثيوبية. لذا أنهى التعامل مع "ميتيك" وجدّد تواصله مع أعدائه القدامى. لكنه متمسك بهدف واحد: سد النهضة الإثيوبي الكبير سينتهي، بغض النظر عن كلفته!

حين وصل المهندس الشاب أنتينيه إلى موقع البناء الضخم منذ ثلاث سنوات للمرة الأولى، كان لا يزال قادراً على السير بين جدارَين يربطان طرفَي المكان. لقد شهد أيضاً على تباطؤ المشروع حين كانت شركة "ميتيك" مسؤولة عنه. اليوم، أصبح الجدار شبه مغلق، ويتولى أربعة آلاف عامل عمليات التلحيم ومدّ الأسلاك وصبّ الإسمنت في موقع البناء. في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، أراد أنتينيه تفقد الأسطوانة الهيدروليكية التي وصلت للتو من إيطاليا.

هو لا يفكر بمخاوف سكان الوادي أو الصراع القائم مع مصر أو نقص التمويل، بل إنه يحمل خططاً كبيرة خاصة به!


MISS 3