السفير د. هشام حمدان

الدروز في المنظار الوطني

23 آب 2021

02 : 00

في إطار إعدادي لبحثي الجامعي، دفاعاً عن لبنان أمام الرأي العام الأميركي والدولي، قرأت بتمعّن أحكام الدستور اللبناني بكل تعديلاته وأحكامه القديمة منذ عام 1926. لم أجد أي نص يحدد طائفة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب. يقولون إن هذا التوزيع ناجم عن اتفاق عرفي تمّ عام 1943 (ميثاق 1943) بغية الإبقاء على دولة لبنان الكبير بحدوده الحالية، بعد تعديل اسمه ليصبح الجمهورية اللبنانية. ويعتبر فقهاء القانون الدستوري وغيرهم، أن الإشارة في الدستور إلى ضرورات الوفاق الوطني، يعني وجوب تكريس هذا العرف.

إذا عدنا لما سمّي بالاتفاق العرفي فقد جرى التوافق على أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية الكريمة، ورئيس الوزراء من الطائفة السنّية الكريمة، ورئيس مجلس النواب من الطائفة الشيعية الكريمة. كما جرى التوافق على ان يكون نائبا رئيسي الوزراء ومجلس النواب من الطائفة المسيحية الأورثوذكسية الكريمة، إضافة إلى أن يكون وزيرا الدفاع والداخلية من الطائفة الدرزية الكريمة. تمّ الإحتفاظ بكل هذا الإتفاق باستثناء ما يتعلق بالطائفة الدرزية. ورغم ذلك، لم يشر أحد إلى حرمان الطائفة الدرزية من وزارتي الدفاع والداخلية، على أنه انتهاك لهذا التوافق وإخلال بضرورات الوفاق الوطني.

طبعاً لا يضيع "حقّ" خلفه مطالب. الدروز لا يطالبون بهاتين الوزراتين، ولا يدّعون أن عدم منحهما لهم هو إخلال بـ"ضرورات الوفاق الوطني". أنا أحيّي القادة الدروز على هذا الموقف، لكنني أقول أيضاً أن عليهم السعي لإسقاط هذه الضرورات الشكليّة لمفهوم التوافق لعام 1943، لمصلحة الضرورات الحقيقية، بغية إقامة الوطن وفقاً لشعار "لبنان أولاً". هذا الشعار يعني أولاً وقبل كل شيء، منح كل اللبنانيين من جميع الطوائف الشعور بالأمن والإستقرار، ووقف الغبن بحقّ أي منها، وتحقيق المساواة فعلاً، لا شكلاً، بين اللبنانيين وفقاً للكفاءة والمؤهلات.

طبعاً لا أستطيع أن أتوقع من هذه القيادات اتخاذ هذا الموقف. فهي لا تملك حرية القرار. كل هؤلاء القادة هم صنيعة الظروف غير الطبيعية التي يعيشها لبنان منذ عام 1969، وخاصة منذ عام 1975 وحتّى تاريخه. فوليد جنبلاط ورث عبئاً كبيراً بعد اغتيال والده عام 1977. من جهة كانت المختارة قصراً يذكّره كل يوم برسالة والده الإستقلالية والتي دفع حياته ثمناً لها، ومن جهة أخرى فهو قام على هذا الإرث، وكانت الحرب التدميرية في أوجّها، والجيش السوري يحتل لبنان. كان شعب لبنان قد غرق فيها نتيجة التفكك الوطني الذي ساهم به التوافق الفقهي لعام 1943. فبدلاً من العمل كما عمل فؤاد شهاب لتعزيز المواطنة ولإقامة ثقافة الوطن، تابع السياسيون من كل الطوائف، التمسّك بهذا التوافق كصيغة للتعايش بينهم، خدمة لمصالحهم وأغراضهم الخاصة. هم حوّلوا لبنان عملياً "مزرعة"، وأستعير هذا التعبير من رواية جورج أورويل الصادرة عام 1945، وعنوانها مزرعة حيوانات Animal farm كنا ندرسها في الخامس الثانوي في إطار ثقافة محاربة الشيوعية. (تعيش "حسب الرواية" مجموعة من الحيوانات ثارت على صاحبها بهدف تحريرها وإقامة مساواة بينها، ووضعت لائحة بأسماء القيادة التي ستقود تحررهم نحو الرفاه. وعلى الأثر بدأ الصراع بين القادة والتكاذب على الباقين في المزرعة). لقد تحوّل لبنان مزرعة تعيش فيه مجموعة طوائف متساوية وفقاً للدستور، لكن لبعضها مرتبة اعلى في هذه المساواة وفقاً للإتفاق الفقهي. وفي مثل هذا الحالة، فإن هذه المجموعات تحتاج دائماً إلى سائس من الخارج يرعاها كي لا تتحول فوضى. هذا الإتفاق الفقهي هو الذي جعل اللبنانيين ضحية لتلك الحرب المستمرة التي أوصلهم لها الساسة الذين كانوا يديرون المزرعة من خلف الستار.

الحرب انتهت عام 1990، لكن المزرعة استمرت بإرادة المحتلّ السوري ومن بعده المحتلّ الإيراني. رسالة كمال جنبلاط الإستقلالية ظلت نائمة. وحده سمير جعجع بين أمراء الحرب، أصرّ على الإحتفاظ برسالته الإستقلالية ورفض الإنضمام إلى جوقة السلطة لإعادة الإعمار بقيادة رفيق الحريري. لم يأبه لكل الإغراءات والضغوط والترهيب الذي تعرّض له. إعترف بخطئه نحو أهل الجبل واعتذر منهم، وما زال يكرر هذا الكلام حتى الآن. أمراء الحرب الآخرون إختاروا بعد الطائف متابعة المسيرة مع النظام السوري. وقد تبين الآن أنها كانت إرادة أميركية - سعودية قبل كل شيء. كان الشعار في حينه طرد الإحتلال الإسرائيلي، وتنفيذ القرار 425. جرى التوافق على إسقاط إتفاق القاهرة المشؤوم، وهذا كان خطوة ممتازة أنهت إنتهاك لبنان لإتفاقية الهدنة لعام 1949. إسقاط إتفاق القاهرة شكّل التقاطع بين المفهوم السوري للصراع القومي، والمفهوم السيادي اللبناني لاستعادة السيادة والإستقلال والحرية. وقد رفع رئيس الوزراء رفيق الحريري أيضاً شعار لبنان أولاً. كان الهدف من إعلانه هذا هو تحويل هذا الشعار من شعار طائفي ضيق، إلى شعار وطني عريض. كان هذا الإعلان بمثابة المفهوم الجديد للميثاقية التي تم إقرارها عام 1943. لكن الآخرين من أركان السلطة بما في ذلك القادة الدروز، الذين تحالفوا خلال الحرب وبعدها مع النظام السوري، لم يتبنّوا هذا الشعار.

كل أركان السلطة بعد الطائف، ومن بينهم القادة الدروز، أقبلوا على تقاسم مغانم إعادة الإعمار مع السلطات السورية التي كانت تحكم لبنان. ومنذ عام 1990 وحتى عام 2000، كانت السلطة بإرادة سورية مطلقة. هي التي تأخذ القرارات وهي التي تسمّي الوزراء والنواب والرؤساء. ولذلك سعى كثيرون من أصحاب المصالح والإنتهازيين، ومن بينهم وجوه درزية، إلى اللحاق بهذا الطاقم.

ذهب الإحتلال الإسرائيلي بتاريخ 25 أيارعام 2000، ومات حافظ الأسد بتاريخ 10 حزيران 2000، فقام على السلطة في سوريا إبنه د. بشار خريج الجامعات البريطانية، وذلك وفقاً للنظام الديمقراطي للديكتاتوريات العربية. قالت الأمم المتّحدة، والولايات المتّحدة، والسعودية، وكل أعضاء المجتمع الدولي بأن إسرائيل قامت بتطبيق موجباتها وفقاً للقرار 425. عندها برز الوجه الحقيقي للدور السوري في لبنان. فالمقاومة بالنسبة لهذا النظام لا تعني تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي فحسب، بل تحرير لبنان من الدور الفلسطيني، وإخضاعه لدورها "القومي". صارت المقاومة في لبنان "مقاومة العالم العربي والإسلامي" ضد إسرائيل. سوريا كشفت انها لا تتصرف في لبنان كقوة لتنفيذ إتفاق الطائف وإخراج لبنان من أزمته، بل كقوة إحتلال. ومن هنا بدأ صراع السياديين من كل الطوائف مع النظام السوري. وسرعان ما برز ما يسمى بحركة 14 آذار التي تمكّنت من طرد الإحتلال السوري من لبنان. خرج الجيش السوري وحلّ مكانها سعيداً، الإحتلال المقنّع الإيراني بواسطة حزب إيران. إنتهت حركة 14 آذار سريعاً. فالقاسم الخارجي المشترك (الأميركي الفرنسي) الذي جمعها بدّل لعبته المحليّة بعد الخروج السوري. كبر حجم لعبتهم، وصار الهدف العالم العربي بأجمعه، تحت عنوان "الربيع العربي" الذي كان يخفي الشعار الحقيقي لهم وهو "الفوضى الخلّاقة".

أين هي القيادة الدرزية من هذه التحوّلات؟ السادة أرسلان ووهاب مستمران بارتهانهما إلى النظام السوري وخليفته في لبنان أي حزب إيران. أما موقف السيد جنبلاط فهو غير ثابت ويتبدّل باستمرار. لكنهم جميعاً ما زالوا حتى تاريخه يرفضون إعلان شعار "لبنان أولاً". إلى هذه القيادات نقول: قسم كبير من الدروز إلى جانبكم ولكن ليس نتيجة مسيرتكم "القومية" وإنما نتيجة الحاجة والمصلحة وعامل الجهل وثقافة الحرب التي ما زالت سائدة. كما أن هناك قسماً أكبر يعلن جهاراً رفضه لكم ويطالب بمحاكمتكم. وبكل الأحوال، يجب أن تدركوا أنّ القسم الأعظم من كل هؤلاء الدروز هم مع شعار "لبنان أولاً". خيارهم هو لبنان وعندما يحين الوقت ستظهر النتائج.

(*)هذه المقالة ردّ على الرسائل التي يبعثها قادة الأحزاب عند الدروز ولا سيما السادة وليد جنبلاط وطلال ارسلان ووئام وهاب.


MISS 3