معركة روسيا على البحر الأسود

02 : 01

في 25 تموز الماضي، ألقى فلاديمير بوتين خطاباً صاخباً في "سانت بطرسبورغ" احتفالاً بالذكرى 325 لتأسيس القوات البحرية الروسية. أعلن الرئيس الروسي أمام تمثال مؤسّس الأسطول البحري (ونجم بوتين المفضل) بطرس الأكبر: "اليوم، تملك القوات البحرية الروسية كل ما تحتاج إليه للدفاع عن وطننا ومصالحنا الوطنية. نحن قادرون على رصد أي غواصة أو خصم سطحي أو جوي والتعامل مع أي ضربة وشيكة عند الحاجة".

ترافق خطاب بوتين مع استعراض مبهر للمعدات البحرية، وهو إثبات على مواقفه الدائمة وعلى تحديث الجيش الروسي في آخر عقدين. أحدثت عودة البلد كقوة بحرية بارزة أكبر ضجة في البحر الأسود حيث تحاول روسيا إنشاء نطاق نفوذ بحري جديد لها. لكن تجازف تحركات موسكو هناك، بما في ذلك تحديث أسطولها في البحر الأسود والمطالبة بالمياه الإقليمية في محيط شبه جزيرة القرم، بتغيير ميزان القوى في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط وتهديد حرية الملاحة في تلك المياه وفي مختلف المساحات المائية حول العالم أيضاً.

أعادت روسيا التأكيد على هيمنتها في البحر الأسود جزئياً عبر القيام بحشد بحري بارز. حاول بوتين إعادة إحياء القوة البحرية الروسية منذ دخوله إلى الكرملين قبل عشرين سنة، فكبح بذلك فترة من التراجع البحري المتسارع وأنشأ قوة بحرية ناشطة ومعاصرة ومتعددة الاستعمالات. لكن منذ ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، ذهبت روسيا أبعد من ذلك وأنشأت منصات جديدة ونشرت قوات وأسلحة أخرى في البحر الأسود، ما ساهم في زيادة نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط: تُعتبر هذه المنطقة محورية بالنسبة إلى عمليات موسكو لدعم الرئيس السوري بشار الأسد. كذلك، عمدت روسيا إلى تحديث قاعدتها البحرية في مدينة طرطوس السورية كجزءٍ من محاولاتها للعودة إلى الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، طالبت موسكو بالمياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم باعتبارها مساحة روسية وحاولت السيطرة عليها. في 23 حزيران مثلاً، دخلت المدمّرة البريطانية "إتش إم إس ديفندر" المنطقة التي تصل مساحتها إلى 12 ميلاً حول شبه جزيرة القرم لوقتٍ قصير، علماً أنها تملك هذا الحق بموجب بند "المرور البريء" في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. كانت المملكة المتحدة قد خططت لهذا التدريب واصطحبت الصحافيين على متن السفينة لتحدي المطالب الروسية بتلك المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم والتأكيد على حرية الملاحة. لكن ردّت روسيا بغضب وأطلقت نيراناً تحذيرية تجاه المدمرة البريطانية ثم استنكرت ما اعتبره بوتين استفزازاً بريطانياً أميركياً. أعطت هذه الحادثة لمحة عن نوع المواجهة البحرية التي يمكن أن تزداد شيوعاً فيما تحاول روسيا إجبار العالم على تقبّل ضم شبه جزيرة القرم، وفيما تسعى موسكو وبكين معاً إلى إضعاف المعايير البحرية القائمة منذ فترة طويلة.

توتر في الدول المجاورة

أدت تحركات موسكو العدائية إلى زيادة توتر الدول الساحلية الأخرى حول البحر الأسود، بما في ذلك جورجيا وأوكرانيا. سبق وغزت روسيا هذين البلدين في محاولة منها لمنعهما من الانضمام إلى حلف الناتو، وهي تتابع احتلال أجزاء من أراضيهما. نتيجةً لذلك، يرتبط البلدان بعلاقات صدامية مع موسكو وهما يتعاونان مع حلف الناتو لتقوية دفاعاتهما البحرية. كذلك، أدى إصرار بوتين على اعتبار الأوكرانيين والروس "شعباً واحداً" واعتبار التعاون الأوكراني مع حلف الناتو تهديداً على الأمن القومي إلى تفاقم الاضطرابات القائمة، وسرعان ما تأججت المخاوف من توسّع التوغل الروسي داخل أوكرانيا.

في غضون ذلك تشعر رومانيا، وهي شريكة قوية في الناتو، بالقلق من قدرات روسيا العسكرية وتشتبه بنواياها. وترتبط بلغاريا المنتسبة إلى الناتو بعلاقات أكثر تعقيداً مع موسكو لكنها تبقى ملتزمة بالتكامل الغربي. تفضّل رومانيا وبلغاريا معاً توسيع وجود الولايات المتحدة والناتو في المنطقة.

لكن تبقى تركيا أهم دولة في منطقة البحر الأسود لأن موقفها تجاه روسيا سيؤثر على مساعي بوتين للهيمنة على المياه هناك. تحمل روسيا وتركيا تاريخاً طويلاً من الصراعات وقد حصل معظمها في البحر الأسود. لكن منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العام 2016، زاد التقارب بين البلدين لأن بوتين دعم خطاب أردوغان حول محاولة الانقلاب وامتنع عن انتقاد الرئيس التركي غداة حملته القمعية ضد خصومه. وفي مؤشر على علاقة الود المستجدة، اشترت تركيا الأنظمة الدفاعية الجوية "إس - 400" من موسكو وأثارت بذلك استياء الناتو ودفعت الولايات المتحدة إلى حذف تركيا من البرنامج الأميركي للطائرات المقاتلة "ف - 35".

لكن لم تكن العلاقات التركية الروسية مبنية على التعاون بالكامل، فقد دعم البلدان قوات عسكرية متناحرة في ليبيا وسوريا. وخلال الحرب الأخيرة في ناغورنو كاراباخ، دعمت تركيا أذربيجان بينما لعبت روسيا دور الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان. وبعد وقف إطلاق النار، اضطرت روسيا للموافقة على حفظ السلام في تلك المنطقة الخارجية المجاورة. كذلك، تصاعدت الاضطرابات بسبب دعم أردوغان القوي لأوكرانيا وموقفه العلني الذي يعتبر شبه جزيرة القرم أوكرانية، لا روسية. وفي شهر تموز الماضي، سلّمت تركيا أول طائرة مسلّحة بلا طيار إلى القوات البحرية الأوكرانية، ما يثبت عمق العلاقات العسكرية التركية الأوكرانية التي تثير استياء روسيا حتماً.

تملك أنقرة تأثيراً قوياً على موسكو لأنها تُسهّل وصول سفن الناتو إلى البحر الأسود أو تمنعها من بلوغه. في آخر 85 سنة، نظّمت تركيا حركة التجارة والعمليات العسكرية البحرية من ذلك البحر وإليه بموجب اتفاقية "مونترو" التي تضمن حرية مرور سفن الشحن عبر المضائق التركية في زمن السلم وتشمل مجموعة بنود لتنظيم مرور السفن الحربية: تنصّ الاتفاقية مثلاً على إبلاغ تركيا مسبقاً بأي عملية مماثلة. تمسّكت أنقرة بسياسة حياد ثابتة في طريقة تنفيذها لاتفاقية "مونترو"، ما يعني أنها منعت مرور سفن حلف الناتو في مناسبات متكررة.

في السنوات الأخيرة، دفعت الولايات المتحدة تركيا إلى تبنّي تفسير أكثر ليبرالية لاتفاقية "مونترو" كي يتمكن حلف الناتو من توسيع وجوده في البحر الأسود. ترفض تركيا تلك المطالب حتى الآن لكنها قد تتجه إلى تغيير الاتفاقية بطريقة جذرية لأسبابها الخاصة: اقترح أردوغان مشروع قناة مثير للجدل لتغيير وجهة الحركة البحرية بعيداً عن مضيق البوسفور المزدحم وباتجاه ممر مائي اصطناعي في غرب اسطنبول. لن تلتزم هذه القناة الجديدة ببنود اتفاقية "مونترو"، ما يعني أن السفن الحربية التابعة لحلف الناتو قد تتمكن نظرياً من المرور نحو البحر الأسود من دون رادع. لم يكن مفاجئاً أن ينتقد بوتين هذا المشروع ويضغط على أردوغان للتمسك باتفاقية "مونترو".

حـــمـــلـــة لـــلـــتـــصـــدي لـــمـــوســـكـــو

يجب أن تقرر إدارة بايدن كيفية الرد على الوجود العسكري الروسي المتزايد في منطقة البحر الأسود ومحاولة الكرملين السيطرة على المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم. لكن لا تقتصر المجازفات المطروحة على روسيا والبحر الأسود. قد يترافق مصير المياه الإقليمية في شبه جزيرة القرم مع تداعيات عميقة في بحر الصين الجنوبي، حيث تطالب بكين بفرض سيادتها على معظم مياهه الإقليمية.

يجب أن تشمل جهود التصدي لروسيا التي تحاول الهيمنة على البحر الأسود تركيا لأنها تسيطر على قنوات الوصول إلى البحر الأسود. حتى الآن، تبنّت إدارة بايدن مقاربة حذرة تجاه أنقرة، فأصرّت على رفض مسائل مثل التراجع الديموقراطي في تركيا وتدهور سجلها في مجال حقوق الإنسان، لكنها طوّرت في المقابل علاقة فعالة مع حكومة أردوغان في عدد من المسائل التي تهمّ الولايات المتحدة، بما في ذلك الإرهاب. لكن لا تزال مسألة شراء تركيا للأنظمة الدفاعية "إس-400" ثم حذفها من برنامج الطائرات المقاتلة "ف-35" عالقة حتى الآن. لا يبدو أردوغان مستعداً للمجازفة بعلاقته مع موسكو، مهما كانت معقدة، حتى لو طرح نفسه كشريك ضروري لواشنطن للتعامل مع روسيا. لكن ستضطر إدارة بايدن للضغط على تركيا كي تتعاون مع حلف الناتو للتصدي لروسيا في البحر الأسود.

على المدى القصير والمتوسط، يجب أن تتابع الولايات المتحدة وحلف الناتو تقديم الدعم السياسي والعسكري إلى بلغاريا، وجورجيا، ورومانيا، وتركيا، وأوكرانيا، لمساعدتها على حشد تحالف قوي ضد لعبة النفوذ التي تخوضها روسيا في البحر الأسود. ويُفترض أن يتعاون الطرفان مع جورجيا وأوكرانيا لتحديث جيوشهما في إطار تعاون متزايد مع حلف الناتو، والأهم من ذلك هو رصد حملات التضليل الروسية التي تهدف إلى إضعاف دور الولايات المتحدة والناتو في المنطقة والتصدي لها.

على المدى الطويل، يجب أن تحاول واشنطن إقناع جميع دول البحر الأسود بالالتزام بالاتفاقيات القائمة التي تضمن حرية الملاحة وحق "المرور البريء" في المياه الإقليمية. يطرح التخلي عن هذه الاتفاقيات في شبه جزيرة القرم تهديداً على أمن المنطقة والتجارة الدولية والنظام العالمي الراهن.


MISS 3