جاد حداد

Mr. Robot... الرأسمالية ومساوئها

8 أيلول 2021

02 : 00

يُعرّفنا مسلسل Mr. Robot على عالم "إيليوت ألدرسون" المضطرب. يتّضح هذا الجانب منذ البداية، مع أننا لا نعرف إلى أي حد يصل هذا الاضطراب. قد نتعاطف مع "إيليوت" أو نتأثر به، لكنه يبقى راوياً غير جدير بالثقة. تتطور الأحداث من وجهة نظر "إيليوت"، لكننا لن نشاهد على الأرجح الواقع من وجهة نظر موضوعية. وحتى اللقطات التي يغيب عنها "إيليوت" تبدو مشبوهة لأننا لن نعرف الجهة التي تطرح رؤيتها في تلك المشاهد.

يتمحور المسلسل حول طريقة التعامل مع النسخة الأخيرة من الرأسمالية ويحلل تداعياتها في حياة الناس. حين يستفسر "إيليوت" من شقيقته "دارلين" عن سبب نوبات هلعها، تكون محقة حين تسأله: هل من المنطقي أن نتصرف وكأن كل شيء على ما يرام؟ متى أصبح هذا الادعاء المعيار الطاغي في حياتنا؟

لا يمكن فصل حالة "إيليوت" النفسية عن هذا السؤال العام. يذكر الفيلسوف جيل دولوز والمعالج النفسي فيليكس غاتاري في سلسلتهما المؤلفة من مجلّدَين حول الرأسمالية وانفصام الشخصية أن المنطق نفسه ينطبق على الحالتَين: إنها حركة "هدم الحدود" أو تجديدها.

لكن قبل الغوص في هذه الفكرة، يجب أن نناقش أولاً مفهوم الحدود الإقليمية. يُستعمَل هذا المفهوم بناءً على طريقة مقاربة الواقع. قد يتّضح هذا الجانب بصرياً عبر بناء سياج أو بطرق متنوعة أخرى. هذه الظاهرة ليست بشرية محض. لكنها لا تقتصر لدى البشر على ترسيم المساحات بطريقة ملموسة، بل ترتبط بمفهوم خاص أو بناحية نفسية معينة. الحدود لها طابع نفسي واجتماعي إذاً.



من الناحية النفسية، يتأثر هذا المفهوم برؤيتنا للعالم والعوامل التي تسمح بتحديد معالم الواقع. على المستوى الاجتماعي، يغوص هذا المفهوم في بنية الثقافة الفردية والسياسة وجوانب أخرى. لكنّ أكثر ما اشتهر به دولوز وغاتاري هو عدم تمييزهما بين هذه المفاهيم بأسلوب مباشر وقوي. بعبارة أخرى، لا يختلف الجانب الشخصي عن السياسي، بل إننا أمام مفهوم السياسة الدقيقة. كذلك، لا يمكن فصل الحياة النفسية عن الواقع الاجتماعي العام الذي نعيش فيه. يتم استثمار الرغبات مباشرةً في مجال اجتماعي معيّن. على سبيل المثال، لا يتعلق اضطراب العصاب أو الذهان بالأم والأب أو بعقدة أوديب بكل بساطة، بل يرتبطان أيضاً بالعلاقة الذاتية مع واقع نفسي واجتماعي أوسع بكثير. إنه أساس التكافل بين هذين العاملَين: لم يكن فرويد مخطئاً بقدر ما كان اختزالياً، فقد أخذ عقدة مشتقة من خيالٍ مرتبط بقطيع ذئاب مثلاً واعتبرها مجرّد مشكلة ناجمة عن تأثير الأب في حياة أولاده.

على عكس جميع التكوينات الاجتماعية السابقة، يمكن تعريف الرأسمالية انطلاقاً من مفهوم هدم الحدود. سبق واعترف ماركس بهذه الفكرة حين اعتبر، هو والفيلسوف فريدريك إنجلز، أن الشيوعية لم تكن تحاول إضعاف الدين، بل إن هذه النزعة كانت قد بدأت عبر قوى الرأسمالية بحد ذاتها.

تضعف العادات الثقافية والعقائد الدينية وعوامل أخرى حين يدخل كل شيء ضمن منطق الدولار العظيم. ربما برزت مجموعة من العلامات التي ساعدت الناس على فهم العالم بطريقة منطقية، لكن تعيق الرأسمالية هذه العملية في جوهرها. تتجدد تصاميم المواقع الإلكترونية بشكلٍ متكرر اليوم، وأصبحت هواتفنا مستحدثة ولم تعد تعمل بالطريقة نفسها. كذلك، لم يعد الناس يتبعون القواعد غير المكتوبة والمتوقعة منهم، فقد يحاولون مثلاً تصفح هاتفهم خلال عرض مسرحي. في الوقت نفسه، تخضع قيمنا الاجتماعية والثقافية لتغيرات متواصلة.

على صعيد آخر، لا يمكن إيجاد أي هويات مستقرة اليوم، بل إنها مجرد تدفقات للمال أو الرموز أو الرغبة بحد ذاتها. تتعلق المسألة الأساسية بمعرفة كيفية الاستفادة من هذا الوضع قبل أن تلغي هذه الموجة حدود الأراضي التي ترسخت موقتاً، أو كيفية إنشاء حدود جديدة غداة تلك الموجة الجارفة.

قد يكون عنوان Mr. Robot غريباً بعض الشيء لكنه يعبّر في الوقت نفسه عن فحوى الموضوع الأساسي: إلى أي درجة يمكن اعتبار ردود أفعالنا تجاه العالم آلية وتلقائية؟ وإلى أي حد تتوقف قراراتنا الخاصة على آراء الآخرين؟ وحين نفكر بالقيام بأي نشاط، ما هي القوى التي تجبرنا على هذا العمل؟ وهل تنشط أي قوى في داخلنا من دون علمنا؟ وهل نعمد إلى إضعاف أنفسنا بطرقٍ معينة؟

يمكن الرد على هذه الأسئلة كلها بالإيجاب على الأرجح، مع أننا قد نقيّم الوضع بطرقٍ دنيوية أكثر من "إيليوت" في مسلسل Mr. Robot، علماً أن الآثار المترتبة عن هذا التقييم تبقى أقل حدة. لكن بُنِي عالمنا في الأساس انطلاقاً من قصة خاصة بالبشر. يختبر كل واحد منا الواقع وكأنه قصته الخاصة. قد نوهم أنفسنا مثلاً بأننا نشاهد ونسمع والدنا الميت، لكن ألا يمكن إيجاد أي طرق بسيطة لجعل حياة جميع الناس تتقاسم البنية نفسها؟


MISS 3