السفير د. هشام حمدان

"بناء السلم بعد النزاع" (4)

كتاب مفتوح إلى السياديين في لبنان... حذارِ من تباطُئكم وتردّدكم

16 تشرين الأول 2021

02 : 00

"حزب الله" ومشروع إيران في لبنان

يعلم جميع من استمع اليّ وتابع كتاباتي منذ عدّة سنوات، كم دعوت وطالبت بتبنّي حياد لبنان للإبقاء على هذا الوطن سيّداً حرّاً ومستقلّاً لكل أبنائه، متمتّعاً بمميّزاته التاريخية التي جعلت منه نموذج رسالة للتعايش الحضاري والثقافي والديني في العالم. وقد شعرت بفرح لا يوصف عندما طالب غبطة البطريرك الراعي بحياد لبنان. وسادتني قناعة بأنّ لبنان قد نجا من المخطّطات المختلفة التي كانت تُعدّ له، في إطار ما يسمّى الشرق الأوسط الجديد.

كان يقلقني دائما ذلك المخطّط الواضح جداً، الذي كان يتمّ تنفيذه لتقسيم المنطقة على أسس دينية ومذهبية، ودائما على حساب الدم العربي الإسلامي- المسيحي، الإثني والعرقي في دول المنطقة. وكتبت أحذّر منذ العام 2011 من هذه اللعبة. وكنت وما زلت أشعر باشمئزاز لا يوصف ممّن يدّعي الفكر العلماني والقومي والتقدمي، وينغمس بكلّ قوّة في هذه اللعبة المقيتة، متجاهلاً الحاجة للوحدة الوطنية، ومعتقداً أنّ نظاماً طائفياً، مثل النظام الطائفي في إيران، يمكن أن يمنع تقسيم المنطقة ويحمي وحدتها القومية "العربية أو السورية"، ويحرّر فلسطين والمنطقة من تلك اللعبة ومَن خلفها.

وكنت مقتنعا وما زلت، بأنّ أيّ تدخّل دولي في لبنان لن يتحقق من دون أن يتمّ حسم موضوع مستقبل لبنان ومصيره. ومن الواضح أن مطلب حياد لبنان قد خلق مؤشّراً دولياً إيجابياً لمصلحة السياديين، ومستقبل لبنان المنتظر. لكنّ عدّة عوامل أخرى، ما زالت تمنع تدخّلاً إيجابياً للمجتمع الدولي يحسم من خلاله الواقع القائم. ومن هذه العوامل، عدم وجود جبهة سيادية، لديها برنامج وطني واضح، يبرّر ذلك التدخّل. سعيت طويلاً لإقناع الثورة والثوار والسياديين برسم برنامج مقنع للمجتمع الدولي، ووضعت مقترحاتي بهذا الصدد. تلقيت مئات رسائل الدعم والثناء والدعوات لشرح الموقف وكتابة البيانات وتوجيه رسائل إلى المسؤولين الدوليين. لكن من دون أيّ نتيجة. في الواقع بدأت أشعر بالقرف. فماذا يريد اللبنانيون، وخاصة من يقول إنّه سيادي؟

وبعد فترة من التردّد، قرّرت أن أكتب هذا الكتاب المفتوح إلى من يقول إنّه سيادي، وأن أطلب الإتفاق على أن تندرج كل المطالب السيادية تحت عنوان "بناء السلم بعد النزاع في لبنان". هذا هو العنوان الذي اتّفق عليه المجتمع الدولي منذ العام 1994، لمساعدة كل دولة تمرّ في أزمة مماثلة لأزمة لبنان. وهذا يعني أن على مفكّري الجبهة السيادية أن يتوقّفوا عن مطالب مثل الوصاية الدولية، أو بوليس محلّي، وغيرها من المطالب التي سقطت مع سقوط مرحلة الحرب الباردة.



البطريرك الراعي وطلب الحياد

ماذا على السياديين أن يعرضوا؟

شعار "بناء السلم بعد النزاع في لبنان"، يفترض تلقائياً وفقاً للتعريف المتفق عليه دولياً، إنهاء الأسباب التي تؤدّي إلى حالة النزاع المسلح والحروب المشتعلة. وهذا يفترض أن يعرض السياديون عدّة مسائل تدرّجية تقنع المجتمع الدولي بصحة مطالبهم، وتحرج أيّ دولة قد لا ترغب بالتفاعل معهم.

أولا: مسألة إستعادة السيادة، وتحقيق حياد لبنان الإيجابي

يعتبر المجتمع الدولي أنّ حماية السيادة الوطنية هي مسألة حاسمة لا تحتمل أي تأويل. لكنّ المجتمع الدولي لا ينظر إلى الدول التي عانت من حروب أهلية على أنّها ضحيّة انتهاك لسيادتها، بل انّها ضحية نزاعاتها الداخلية. وهذه هي الحال بالنسبة للبنان. لذلك، فمن الضروري:

1- إقامة قناعة لدى المجتمع الدولي بأن معاناتنا ليست وليدة نزاع طائفي، وخلاف بين الطوائف على اقتسام السلطة، بل هي نتيجة وجود إحتلال مقنّع وتدخّل خارجي في لبنان يمنع تطبيق الدستور. وعلينا بالتالي، التأكيد على الإلتزام الكامل باتفاق الطائف، والمطالبة باستكمال تنفيذ بنوده، وتطبيقه كاملا، واحترام الدستور القائم على أساسه، وتذكير المجتمع الدولي بقراره 1701 الذي شدّد على هذا المطلب. كما علينا أن نذكّره بتأييده لإتفاق الطائف عام 1989. كل دعوة تطالب بإلغاء إتّفاق الطائف أو تعديله في هذه المرحلة، ولا سيما من خلال الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي أو الدعوة إلى الفدرالية، إنما يخدم من يوحي بأن الشأن الداخلي هو سبب النزاع. وهذا يشكّل مسماراً إضافياً في نعش الجمهورية اللبنانية كما عرفناها منذ العام 1920، ويخدم من يرفض السيادة.

2- يجب تذكير المجتمع الدولي أنّ معاناتنا سببها عدم إحترام السلطة الحاكمة قواعد القانون الدولي في العلاقات الدولية، وانتهاكها موجباتنا وفقا لميثاق الأمم المتّحدة، وللقرارات الصادرة عنها، وكذلك موجباتنا وفقا لميثاق جامعة الدول العربية. وهذا الأمر يعني أنّ على السياديين التشديد على أن لبنان هو جزء من العالم العربي، ولكن في إطار احترام موجبات السيادة الوطنية، وتعهّداتنا المشتركة مع الدول العربية في إطار الأمم المتّحدة. ومثل هذا الأمر يمنح السياديين صدقية، لأن ما يقولونه يندرج في إطار الدستور، وكذلك في إطار المفهوم الصحيح للميثاقية الوطنية القائمة على هذا الأساس منذ العام 1943.

واستطراداً، يجب التشديد على أنّ السلطة الحاكمة لا تنفّذ، ولا تسعى إلى تنفيذ قرارات الأمم المتّحدة لسحب كلّ الأسلحة خارج سلطة الدولة، ولا سيما أسلحة الميليشيات. السلطة الحاكمة تحتجّ أنّ سلاح "حزب الله" هو جزء من المشكلة الإقليمية، مما يعني بوضوح أنّها لا تمنع ولا تسعى إلى منع، التدخّل الإيراني في لبنان القائم من خلال تسليح تلك الميليشيات وتمويلها وتدريبها ودعمها بالمال والخبراء، بغية تنفيذ أجندتها الإقليمية والدولية، وفي معظمها معاد للعالم العربي. ويعني هذا أنّ السلطة الحاكمة تمنح غطاء لعمل عدواني إيراني يوميّ على سيادة لبنان، ولإنتهاك إيران الفاضح لموجباتها وفقا للقانون الدولي.

كما يجب أيضا، التشديد على أنّ السلطة الحاكمة تغاضت عن استخدام "حزب الله" الإيراني المرفأ لنشاطات غير بريئة. هي لا تشارك في الجريمة فحسب، وإنما تسعى الآن لمنع القضاء من القيام بمهمّته لتحقيق العدالة. ويجب أن يطالب السياديون علناً ومنذ الآن، بضرورة إلزام إيران بدفع تعويضات إلى لبنان عن الخسائر التي حصلت فيه بسبب عدوانها وتدخّلاتها غير المشروعة. بل ويجب النظر فعلاً وعاجلاً، بتقديم مراجعة أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد السلطة في إيران تحت عنوان جريمة "العدوان". مثل هذا المطلب سيزيد من قوّة الجبهة السيادية أمام المجتمع الدولي.

3- ويجب التشديد على أنّ السلطة الحاكمة تتغاضى عن موجب الإلتزام باتفاق الهدنة لعام 1949، وعن موجب منع أيّ أنتهاكات له من الجانب اللبناني، ومطالبة إسرائيل بالمقابل، باحترامه. إن عدم إحترام لبنان لهذا الموجب، يسقط عنه حقّه في المطالبة بإلزام إسرائيل بتنفيذ الإتفاق. لبنان قام بإلغاء إتفاق القاهرة المشؤوم منذ العام 1992. وبدلا من الإستفادة من هذه الخطوة، تمّ السكوت عن استخدام مقنّع محلي وخارجي (سوري وإيراني) للحدود اللبنانية في حربهما مع إسرائيل. أركان السلطة يقدّمون الأعذار أمام المجتمع الدولي للممارسات الإسرائيلية ضد لبنان. بل هم، وبالتعاون مع الميليشيات، يقومون بتسهيل إستيلاء إسرائيل بصورة غير مشروعة، على جزء من الثروة المائية في جنوب لبنان. الأمر الذي سيولّد صراعاً غير ضروري بين الجانبين على الأمد البعيد.

مثل هذا الأمر يفرض المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية بشأن لبنان، إبتداء من إتفاق الهدنة لعام 1949. كل تلك القرارات شدّدت على حماية السيادة اللبنانية وعلى استقلال لبنان ووحدة أراضيه الوطنية. وهذا المطلب يحقّق أيضاً بنداً من بنود القرار 1701 الذي يدعو إلى ترتيبات طويلة الأمد بين لبنان وإسرائيل، تضمن الأمن والسلام على الحدود الجنوبية.

كما أنّ هذا الأمر يسهّل بالتأكيد مطلب تبنّي حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية، كما دعا اليه غبطة البطريرك. فمن جهة، لبنان لن يتراجع عن خدمة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكن ضمن الآليات القانونية الدولية. ومن جهة أخرى، لن يسمح بإعادة استخدام أراضيه الوطنية لأيّ أعمال حربية تخدم مصالح خارجية. لبنان سيستخدم القوّة فقط من أجل الدفاع المشروع عن النفس، وفقا للمادة 51 من الميثاق. وهذا يعني أنّ من حقّ لبنان أن يقيم جيشاً قوياً وعصرياً، وأن يقيم أنظمة دفاع وطنية واستراتيجية دفاعية من خلال استخدام المتطوعين أو الإحتياط عند الضرورة، وبشرط ألّا يهدف مثل هذا الأمر، إلا إلى الدفاع المشروع عن الوطن.

ثانيا: بناء السلم بعد النزاع

هذا الأمر يعني المساهمة في إعادة بناء السلطات في البلاد، والأنظمة الوطنية التي تعرّضت للإنهيار بسبب الحروب. وهذا يشمل بناء النظام الإداري، القضائي، الإقتصادي، المالي، البيئي والتربوي وغيرها. وسوف أبحث تفصيلاً في هذه الجوانب لاحقاً. لكنّ أي بناء جديد لمثل هذه السلطات يفترض احترام مبادئ أساسية متّفق عليها دولياً على أنها مبادئ ملزمة لبناء السلم بعد النزاع. وتشمل هذه المبادئ إقامة أنظمة دستورية لضمان الممارسة الديمقراطية، ولضمان القواعد المرعيّة لحقوق الإنسان، وضمان الشفافية ومكافحة الفساد، ومحاربة الإرهاب الدولي، وإقامة الآليات التي تستجيب للإتفاقيات الدولية المتعدّدة التي وضعها المجتمع الدولي في العقود المنصرمة بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.

في الواقع أنا أكتب كتاباً عن هذا الموضوع، ومن غير الممكن أن أشير في مقالة واحدة إلى كل تلك الجوانب. لكن المهم هو أن على السياديين التأكيد على التعاون مع المجتمع الدولي من أجل اللحاق بالرّكب الدولي. وفي هذا الإطار، أنا أعتقد أنّه من الضروري أن يشمل أي برنامج سيادي الإلتزام بما يلي:

1- العمل على إنشاء آليّة قضائية وطنية مناسبة لملاحقة ومكافحة جرائم الفساد.

2- العمل على الإنضمام إلى كافّة المحاكم الدولية الدائمة والمعنية بحماية حقوق الإنسان، ومنع الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجرائم الحرب، والعدوان وغيرها.

3- إسقاط قانون العفو عن جرائم الحرب. فهذا القانون مخالف لأحكام القانون الدولي التي تمنع سقوط مثل تلك الجرائم بمرور الزمن، أو تمنح المرتكب حصانة تمنع عنه الملاحقة والمحاسبة. ويمكن أن يلجأ لبنان إلى تجربة جنوب أفريقيا بإقامة مؤتمر للمصارحة والمصالحة حيث يعترف أركان السلطة بجرائمهم ضدّ الناس، ويتنازلون عن مواقعهم في السلطة، ويعيدون الثروات التي سرقوها من المال العام. ماذا لو فشل السياديون من جديد في استدراك الأمور؟

إن استمرار التشتّت لدى السياديين سيبقي الواقع المتدهور القائم في لبنان وسيزيده سوءاً. والواقع القائم حالياً، يندرج تحت عنوان "الفوضى الخلّاقة" التي جاءتنا بها سياسات الولايات المتّحدة منذ أوائل القرن الحالي. ومثل هذه السياسة تعني إستخدام العوامل النفسية لتثوير هذه الفوضى كي تخلق معطيات جديدة للواقع في لبنان، يمكن الإستناد إليها لوضع حلول له.


اليونيفيل وتنفيذ القرار 1701



فما هي هذه المعطيات؟

1- سيطرة مطلقة للميليشيات على البلاد. الأمر الذي يعني القبول بأي حلّ ترتضيه تلك الميليشيات. هذا هو السبب الذي دفع الرئيس الفرنسي ماكرون إلى التشديد على إقامة حكومة، معتقداً أنّ المحاصصة القائمة في الحكومة هي الحل الذي ترتضيه تلك الميليشيات. لكن من الواضح، أن المحاصصة لم تعد قادرة على إقامة مدخول كاف من الخزينة اللبنانية، يرضي الميليشيات وأغراضها. والمداخيل الخارجية، ورغم أنّها ستكون ديونا إضافية على الخزينة اللبنانية، إلا أنها صارت مرتبطة بالسياسات الإقليمية للدول المانحة. وعليه، فالحكومة لن تستطيع أن تنأى بلبنان عن النزاعات القائمة من حوله، مما يبقي التوتّرات فيه ويمنع أي إصلاح منشود.

2- إن إستمرار النزاعات يعني الدفع باتجاه تقسيمي للبلاد، مما يمكن أن يفرض مناطق جغرافية تستجدي النجدة الخارجية، وتحقق على الأرض قيام مناطق حكم ذاتي محمية خارجياً على غرار الواقع في سوريا والعراق. وهو ما كانت تتمناه إسرائيل دائماً. وإذا نظرنا بعمق إلى هذا الأمر، نرى أنه ستقوم حتماً منطقة حكم ذاتي مارونية، وأخرى درزية، وثالثة سنية، ورابعة شيعية. فكيف سيتم تثبيت تلك المناطق جغرافياً مع وجود التداخل السكاني في البلاد؟

3- يعتقد البعض أن هذا الأمر يدفع بدول خارجية للتورية على التمدد الإيراني عبر "حزب الله" وحليفه العوني في كل لبنان. لكن هذه الدول تدرك إستحالة هذا الأمر سلماً، وهي لن تحمي الحزب وحلفاءه إذا قاموا بمغامرة عسكرية لهذا الغرض. فهل سيلجأ حزب إيران إلى استخدام القوة ضد اللبنانيين لبسط سيطرته؟ الخارج يتمنى ذلك. الواقع أنّ الهدف الحقيقي للفوضى الخلّاقة، هو أن يفرض أهل البلد الحل لأنفسهم، ولو كان الثمن كلفة دموية هائلة.


مرفأ بيروت ومحاولة عرقلة القضاء



حتى لا يتحقق حلم كيسينجر

ثمة مخرجان لا ثالث لهما. فإما أن يغادر الناس لبنان طوعاً، مما يجعل البدائل أقل كلفة. وهذا الأمر تقوم به الآن أعمال الشحن النفسي، من خلال ما يكتبه ويتناقله الناس من مقالات تيئيسية، أو أن تترك الأمور إلى نزاع مسلح. أرى أنّ عدم إسراع أهل البيت لحماية بيتهم، قد ساعد على الدّفع نحو هذين المخرجين. وفي الحالتين، فإن الكلفة الباهظة لهذا التباطؤ عند السياديين إنما تدفع ثمنه الأقليات المسيحية والدرزية التي يزداد أعداد المهاجرين منها الى خارج لبنان. هم يعدّون لأن يكون اللاجئون الفلسطينيون والسوريون المواطنين الجدد. وهكذا يتحقق حلم هنري كيسينجر بعد أكثر من خمسين سنة، فيضيع لبنان، الوجه المسيحي الإسلامي المميز في هذا الشرق.


MISS 3