الفائزان بنوبل الآداب...فلسفة العدم وشاعرية الوجود

11 : 16

كتبت أولغا توكارتشوك في رابع رواية لها، House of Day, House of Night (منزل النهار، منزل الليل): "العالم حي ونابض. لا وجود فيه لأي نقطة صفر يمكن حفظها وفهمها. ولا وجود لأي وهم أكبر من منظر طبيعي، لأن الثبات معدوم". هذه هي عقلية الفائزة بجائزة نوبل للآداب للعام 2018: إنها امرأة تتكل على حدسها وتستوحي أفكارها من كارل جونغ وويليام بلايك، وتتجاوز رواياتها الحدود والقرون لإعادة ابتكار عالم مرن حيث تبدو جميع المظاهر مترابطة: ممالك الحيوانات والنباتات والبشر، والظواهر الطبيعية والخارقة للطبيعة، والعلم والصوفية. قد لا يسهل أن نقرأ رواياتها، لكنها تحقق أعلى المبيعات في بلدها. فازت توكارتشوك مرتين بجائزة "نايكي"، وهي النسخة البولندية من جائزة "غونكور" الفرنسية: في العام 2008 عن رواية Flights (رحلات) التي حصدت أيضاً جائزة "مان بوكر" الدولية، ثم في العام 2015 عن روايةThe Books of Jacob (كتب يعقوب) التي تتألف من ألف صفحة وتتناول طائفة يهودية خطيرة من القرن الثامن عشر.

وُلِدت توكارتشوك في 29 كانون الثاني 1962 في منطقة "سولشو" البولندية، وأمضت طفولتها في مستعمرة غريبة. كان والداها يعلّمان في جامعة "كلينيكا" الشعبية الواقعة داخل قلعة في قرية يعيش فيها حوالى عشرة راشدين ومئة طفل ينادون معلّميهم "عمي" أو "عمتي". كانت هذه المقاطعة الليبرالية والتحررية مستوحاة من مبادئ اختصاصي التربية الدنماركي غروندتفيغ ومُموّلة من الدولة الشيوعية... لكن عادت الحكومة وأقفلت المؤسسة في العام 1972. حين طُرِدت أولغا الصغيرة من جنّتها، بدأت تعيش حياة طبيعية. في المرحلة اللاحقة، درست علم النفس في وارسو، ونشرت أول ديوان شعر لها في العام 1989، ثم أصدرت روايات هجينة وخليطاً من الانطباعات، والأفكار، والقصص القصيرة، والنصوص الوصفية، والحكايات، والمعلومات الغريبة التي تربط بينها الروائية سعياً إلى استكشاف علاقات خفية بين مختلف الحقبات والأراضي والقواعد التي تبدو متباعدة.

تتمحور الرواية الجميلة Flights(عن دار نشر "نوار سور بلان") حول طائفة قديمة كانت تجاهر بضرورة التخلي عن كل ما نملكه من منازل وأراض لتجنب "المسيح الدجال"، وتدعو إلى عدم التوقف أو الاستقرار في مكان واحد خوفاً من التحول إلى كائن حجري: "تحركوا، امشوا، تحركوا! طوبى لمن يمشي"! كانت روايتها اللاحقة Drive Your Plow Over the Bones of the Dead (فوق عظام الأموات) عبارة عن قصة مشوقة تدور أحداثها في قرية صغيرة في إقليم "السوديت" خلال شتاء قارس: إنها قصة امرأة نباتية مُسنّة ومهندِسة متقاعدة تجري الأبحاث عن حوادث وفاة غامضة لصيادين غير شرعيين. بنظر أولغا توكارتشوك التي انجذبت منذ صغرها إلى مبدأ التوفيق بين المعتقدات ومذهب الغنوسطية، يختبئ الإله في الحيوانات!

تحضيراً لرواية The Books of Jacob، جمعت الكاتبة وثائق موسوعية لسرد قصة حياة نبي منشق عن اليهودية اسمه يعقوب فرانك. عاش هذا الأخير مع تلاميذه حياة بدوية في أنحاء أوروبا خلال القرن الثامن عشر. كان هذا الرجل "من كل مكان ومن العدم في آن". إنه مهاجر ثائر يتحرر من النظام الاجتماعي والديني، ويرفض شريعة موسى، ويعتنق الإسلام أو المسيحية بحسب الظروف، ولا شك في أنه لم يحصد إعجاب الجميع في بولندا.

أولغا توكارتشوك: من كل مكان ومن العدم في آن!

أســتــريــد دو لارمــيــنــا - "لـــو فـــيـــغـــارو"

تــيــيــري كــلــيــرمــون - "لـــو فـــيـــغـــارو"

تكلم بيتر هاندكه في My Year in the No-Man›s-Bay (سنتي في الخليج المتنازع عليه) عن «زمنه وأعدائه». لكن يبدو أن الزمن تغيّر والرياح تحوّلت منذ ذلك الحين.

تعرّض هذا الروائي وكاتب اليوميات والكاتب المسرحي والمترجم النمساوي لاحتقار علني وتشويه سمعته لأنه أيّد معسكر صرب البوسنة وكوسوفو خلال حرب يوغوسلافيا السابقة. هو يقيم في إحدى مناطق باريس، بالقرب من غابة «مودون» منذ العام 1990، وظن الكثيرون أنه ممنوع من تلقي أي جوائز رسمية بعد خطابه العاطفي، في العام 2006، خلال جنازة الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش المُتّهم بارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب. عمدت إدارة المسرح الفرنسي، في محاولةٍ هستيرية لاتخاذ موقف سياسي صائب، إلى إلغاء مسرحيتهA Journey to the Rivers: Justice for Serbia (رحلة إلى الأنهار: العدالة لصربيا) التي كان يُفترض أن تُعرَض في بداية العام 2007.

لم يفوّت هاندكه سابقاً أي فرصة للتعبير عن ازدرائه بالمتفاخرين والمجتمع النمسوي عموماً، على غرار مواطنه توماس برنهارد. يتراجع عدد داعميه أيضاً، منهم أمير كوستوريكا، ووينفريد سيبالد، وجان كلير، ومواطنته إلفريده جيلينيك الفائزة بجائزة نوبل. عارض هؤلاء بدورهم قصف الصرب بطائرات حلف الأطلسي منذ عشرين سنة.

كان المسرح نقطة انطلاق بيتر هاندكه المولود في «كارينثيا» في العام 1942، وهو من أب ألماني وأم سلوفينية انتحرت في عمر الواحد والخمسين. استوحى الكاتب من هذا الحدث المأسوي قصةA Sorrow Beyond Dreams (حزن وراء الأحلام). في العام 1966، كان يستمتع بكواليس أعماله، فيحفظ الناس اسمه ولا يتذكرون عنوان مسرحيته Outrage to the public (غضب من الجمهور). بالكاد كان عمره 25 عاماً حينها. لا يزال يضحك على ذلك الموقف حتى الآن.

ثم حصل اللقاء المحوري مع المخرج ويم ويندرز الذي نقل عدداً من رواياته إلى الشاشة: The Goalie›s Anxiety at the Penalty Kick (قلق حارس المرمى من ركلة الجزاء) في العام 1972، ثم The Wrong Move (خطوة خاطئة)، وصولاً إلى سيناريو Wings of Desire (أجنحة الرغبة) الذي حقق نجاحاً باهراً. في هذه الفترة بالذات، أقام هاندكه الشاب علاقة عاصفة مع جان مورو التي عادت وشاركت في مسرحيته The Ride Across Lake Constance (رحلة عبر بحيرة كونستانس) من إخراج كلود ريغي في العام 1974.

يحب هاندكه قراءة أعمال نوفاليس، وسرفانتس، وبول سيلان، وجورج بيرنانوس، وإيمانويل بوف، وترجم أعمال باتريك موديانو ورينيه شار، وكان معجباً ببوب ديلان وفان موريسون. كذلك، كان يهتم بمجال مسح الأراضي في أوروبا، ويحب التجول في كل مكان، ويكتب مقالات فردية عن التعب وخزانة الفونوغراف الآلي وقطف الفطر. ابتكر هاندكه أعمالاً يمكن اعتبارها ساخرة ومؤثرة في آن، علماً أنه كان يعتبر نفسه دوماً «مفكراً آنياً».

من بين مؤلفاته الوافرة (ترجمتها دور نشر «غاليمار» و»فيردييه» و»بورجوا»)، تبرز عناوين مميزة: The Left-Handed Woman (المرأة العسراء) (تم اقتباسها كفيلم سينمائي من بطولة إديث كليفر وبرونو غانز ومايكل لونسدال)، The Weight of the world (ثقل العالم)، The Chinaman of Pain(رجل الألم الصيني)، The Doctrine of Saint-Victory (عقيدة سانت فيكتوار) (رسم بول سيزان لوحات عنها)،At my window in the morning (على نافذتي في الصباح) (كتيّبات بين 1982 و1987)، وأخيراًDon Juan: His Own Version (دونجوان: نسخته الخاصة) في العام 2004.

يتبنى بيتر هاندكه شعار «العيش بطريقة مجزأة، وسرد القصص بصورة شاملة»، مع التركيز الدائم على البحث عن تفاصيل ساحرة، كتلك التي نجدها مثلاً في صفحات Yesterday on the Way (أمس على الطريق): «أزهار القرطاسيا الأرجوانية في الحديقة، خشب البقس في الظل، تنقّل الشحرور بين الشجيرات (...)، غليان الصمت».

أخيراً، لن يصبح هذا الوصف كاملاً من دون ذكر حبّه للرسم المعاصر، بدءاً من أليشنسكي وصولاً إلى جان فوس (خصّص له عملاً أدبياً)، كما أنه يحب السفر الذي قاده سابقاً إلى الولايات المتحدة، والبرتغال، وإسبانيا، والبلقان (استوحى منها The Moravian Night (ليلة مورافيا)، واليابان. ولا ننسى أنه حوّل روايةThe Malady of Death (مرض الموت) لمارغريت دوراس إلى فيلم سينمائي، بعد عرضها على المسرح في برلين.

لطالما أحب بيتر هاندكه العبارات اللاذعة والشاعرية في آن، كتلك التي تشير بطريقة غير مباشرة إلى الشاعر الفرنسي رينيه شار (تجاهلته جوائز نوبل عن غير حق). يكتب مثلاً: «أعتبر الكتاب دوماً تجسيداً للشمس». تعكس عبارات أخرى أسراراً خفية، كأن يقول: «في الليل، لا أريد أن أسمع إلا أصوات النساء»!

بيتر هاندكه: جرأة وشاعرية


MISS 3