ميشيل باربيرو

قد تلمّ شمل معسكر اليمين وتهزم ماكرون

فاليري بيكريس...سيدة فرنسا الحديدية؟

22 كانون الثاني 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

"اليمين عاد إلى الساحة"! هذا ما أعلنته فاليري بيكريس بعد ترشّحها رسمياً عن معسكر المحافظين للانتخابات الرئاسية الفرنسية المقررة في شهر نيسان. تبلغ هذه المرأة 54 عاماً، وهي تقارن نفسها برئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وقد تكون آخر أمل لحزبٍ يواجه مشاكل عميقة. لم يتعافَ اليمين التقليدي الفرنسي المعروف راهناً بحزب "الجمهوريون" من هزيمته الكارثية في العام 2017، حين فشل في بلوغ الجولة الأخيرة من السباق الرئاسي للمرة الأولى منذ ستين سنة. منذ بضعة أشهر، كان هذا المعسكر غارقاً في الفوضى والانقسامات الداخلية وعاجزاً عن ترك أي بصمة مؤثرة في الحملة الانتخابية.

بعدما هزمت بيكريس أربعة منافسين آخرين بشكلٍ غير متوقع خلال الانتخابات التمهيدية في الشهر الماضي، فأصبحت بذلك أول امرأة تترشّح للرئاسة عن معسكر اليمين الوسطي، تحسّنت فرص الحزب بطريقة جذرية. تشير أحدث الاستطلاعات إلى احتدام المنافسة مع زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، للتأهل إلى الجولة الثانية ومواجهة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يحاول الفوز بولاية رئاسية ثانية، علماً أنه يتفوق على منافسيه في استطلاعات الرأي حتى الآن ويحصد حوالى 25% من الأصوات. حتى أن البعض توقّع للحظات عابرة أن تفوز بيكريس في الجولة الأخيرة بعد ترشّحها.

أمضت بيكريس مسيرتها السياسية كلها وسط المحافظين، فتحوّلت من مستشارة إلى نائبة في البرلمان ثم وزيرة في الحكومة، قبل أن تصبح أخيراً رئيسة إقليم في محيط باريس. لكن يعتبر خصومها الامتيازات التي حصلت عليها في بداية مسيرتها تجسيداً صريحاً لحياة النخبة. نشأت بيكريس في ضاحية باريسية صغيرة وقصدت مدرسة خاصة، ثم تخرّجت من جامعــة الدراســات العليا لإدارة الأعمـــال في باريس، وهي أهم جامعة من نوعها، قـــبل أن تحتل المرتبة الثانية في صفّها في المدرسة الوطنية للإدارة التي تُخَرّج أهم الموظفين الحكوميين في فرنسا.

اليوم، تتّهم بيكريس ماكرون باستغلال أزمة كورونا وتتعهد بتطبيق إصلاح شامل ومثير للجدل في نظام التقاعد، وهو هدف حاول ماكرون تحقيقه منذ سنوات، ما أدى إلى اندلاع موجة إضرابات شلّت حركة البلد، لكن عاد الرئيس وتخلى عن هذه الفكرة بعد تفشي فيروس كورونا. تُخطط بيكريس أيضاً لتخفيض الإنفاق العام بمعدل 51.5 مليار دولار سنوياً، والتخلي عن 200 ألف وظيفة عامة، وتقليص إعانات البطالة، وإنشاء لجنة لتخفيف الإجراءات التنظيمية البيروقراطية المفرطة.

حين تتكلم بيكريس عن ثاتشر وميركل، تقول صوفي بريماس، عضو في مجلس الشيوخ عن حزب "الجمهوريون" وصديقة بيكريس، إنها تريد بذلك أن تؤكد على تأثّرها بهاتين المرأتَين اللتين نفذتا وعودهما وبقيتا في الحُكم لمدة تكفي لتصحيح شؤون بلدَيهما. لكن يثبت سجل بيكريس الحكومي أنها أقرب إلى مواصفات المرأة الحديدية من صورة "الأم" التي تحملها ميركل.

في العام 2007، عيّنها نيكولا ساركوزي وزيرة التعليم العالي لإصلاح طريقة العمل في الجامعـــــات الفرنسية. كانت تلك الخطـــوة مفاجئة لأنها من مؤيدي جاك شيراك ولطالما اعتبرت ساركوزي وفريقه أعداءً لها داخل الحزب ولم تكن جزءاً من أوساطه الداخلية. لكن كان توسيع استقلالية الجامعات وفصلها عن الحكومة المركزية شعار المحافظين منذ فترة الثمانينات على الأقل، ولم تُخْفِ بيكريس يوماً خيبة أملها من شيراك لأنه فشل في تحقيق هذا الهدف.

قالت بيكريس بعد استلام وظيفتها إنها تدرك مخاطر هذا المنصب الذي يطرح تحديات كبرى على كل من يحاول إحداث تغيير حقيقي منذ العام 1968، لكنها قَبِلت التحدي نظراً إلى اهتمامها القديم بالعالم الأكاديمي واقتناعها بحاجته إلى إصلاح واسع النطاق. طرحت بيكريس مشروع قانون مثير للانقسام لزيادة استقلالية الجامعات في القرارات المرتبطة بميزانيتها وموظفيها ومنهجها التعليمي. وأدى مشروع "أَمْرَكة" الجامعات الفرنسية الذي يسمح لها بتلقي تمويل إضافي من القطاع الخاص إلى نشوء ردة فعل عنيفة من الطلاب والمعلمين لأنهم شعروا بالقلق من تطبيق نهج الشركات على التعليم العام. استمرت الاحتجاجات والاضطرابات طوال أشهر.

تتذكر بيكريس لاحقاً أنهم أحرقوا مجسّماً لها في قاعة محاضرات السوربون، وقد واساها حينها رئيس الوزراء الفرنسي اليميني السابق ألان جوبيه، فقال لها: "حصل لي الأمر نفسه. ستفهمين قريباً أن هذه التصرفات لا تؤذيك".

يقول جان فابري، عالِم رياضيات تَصَادم معها حين كان رئيس إحدى النقابات، إن بيكريس استعملت "منطقاً شعبوياً يشتق من نهج الرئيس ساركوزي مباشرةً ومفاده ما يلي: "يفرض التعليم العالي والباحثون كلفة عالية على الخزينة، لكن ما هي النتائج المُحققة أصلاً"؟

بقي الإصلاح الموعود على حاله، رغم تقديم بعض التنازلات، ويعتبر مناصرو بيكريس تلك المرحلة إثباتاً على قوة إرادتها وتاريخها اليميني. يقول مدير الاتصالات في حملتها الانتخابية، جيفري ديدييه: "لقد وقفت بكل قوة في وجه الاضطرابات الشعبية طوال تسعة أشهر". لكن يظن منتقدوها أن تدفق الأموال النقدية من القطاع الخاص لم يحصل على أرض الواقع، ولم يسمح هذا الإصلاح بتحسين مرتبة الجامعات الفرنسية عالمياً.

بعد مرور سنوات أنشأت بيكريـــس، بصفتها رئيسة إقليم "إيل دو فرانس" الذي يشمل مدينة باريس، "كتائب الأمن الإقليمي" المثيرة للجدل لمراقبة المدارس الثانوية في بعض الأحياء، وحاولت منع المهاجرين غير الشرعيين من الاستفادة من الخَصْم على رسوم العبور لكنها فشلت في مساعيها، ومنعت ارتداء "البوركيني" الذي يُسبب جدلاً محتدماً في فرنسا. يعتبر الكثيرون هذا الشكل من لباس السباحة الخاص بالنساء المسلمات نقيضاً للتقاليد الفرنسية العلمانية.

على صعيد آخر، يشيد معسكر بيكريس بطريقة إدارتها للوضع المالي في المنطقة التي تحكمها. يقول نائبها وحليفها القديم، عثمان نصرو، متبجّحاً: "لقد خفّضنا تكاليف التشغيل تزامناً مع حصول فورة كبرى في الاستثمارات. لكن يشدد الخصوم في المقابل على تباطؤ ترميم المدارس القديمة والبنية التحتية الخاصة بالنقل في المنطقة، على اعتبار أن حملة بيكريس لتوسيع الميزانية حصلت على حساب سكان "إيل دو فرانس"، فقد أصبح تخفيض الديون أهم من نوعية الخدمات.

يقول ماكسيم دي جاييتس، زعيم المعارضة الاشتراكية في مجلس إقليم "إيل دو فرانس": "بحسب رأيها، يتعلق أهم إنجاز قد يُحققه رئيس أي منطقة بالسيطرة على الإنفاق العام". بعدما أصبحت شبكة الترانزيت العامة في المنطقة جزءاً من المنافسة، قرر بعض سائقي الحافلات الإضراب بسبب تخفيض أجورهم وتدهور ظروف العمل.

مع ذلك، يشيد الكثيرون بسجل بيكريس خارج معسكر اليمين الوسطي. وفق استطلاع رأي نُشِر في حزيران 2021، عبّر 68% من المشاركين عن سرورهم بالنتائج التي حققتها بيكريس، وقد دعم سلفها الاشتراكي حملة إعادة انتخابها في السنة الماضية.

ربما تنجم زيادة شعبيتها خارج قاعدة حزبها عن عدم تخلّيها بالكامل عن جذورها المعتدلة. خلال استحقاق داخلي في حزب "الجمهوريون" قبيل انتخابات العام 2017، قررت بيكريس الامتناع عن دعم رئيس الوزراء الفرنسي السابق، فرانسوا فيون، رغم علاقتهما الشخصية والسياسية الوثيقة بسبب أجندته الاقتصادية الليبرالية المتطرفة. وخلال السنوات اللاحقة، شعرت بيكريس بالانزعاج حين لاحظت أن أعضاء حزب "الجمهوريون" باتوا أكثر ميلاً إلى اليمين المتطرف، ثم غادرت الحزب بعد هزيمته في الانتخابات الأوروبية في العام 2019، ولم تنتسب إليه مجدداً إلا في تشرين الأول الماضي، قبيل الانتخابات التمهيدية.

عمدت بيكريس بعد استرجاع مسؤولياتها في الحزب إلى تعديل مقاربتها عبر طرح اقتراحات "اجتماعية ديغولية"، منها رفع أجور 12 مليون عامل فرنسي، علماً أن الخزانة العامة هي ركيزة أساسية لهذا المشروع، فضلاً عن تعزيز خطط ملكية الموظفين للأسهم، وهذا ما دفع شركات متزايدة إلى إدراج العمال فيها في خانة أصحاب الأسهم. في مسائل مثل حقوق المثليين والإجهاض، تنتمي بيكريس إلى الجناح المعتدل من حزبها، فهي تؤيد حرية الاختيار. كانت بيكريس قد شاركت في مسيرات تعارض تشريع زواج المثليين في العام 2013، لكنها تقول الآن إنها لا تخطط لإلغائه في حال فوزها بالرئاسة.

ربما يحتاج الحزب إلى هذا النوع من الغموض المدروس حول هويتها الحقيقية، إذ تجتمع العناصر الليبرالية والاجتماعية والمحافِظة في اليمين الفرنسي لتشكيل شخصيتها السياسية.

يقول ديدييه: "هي تجيد تشجيع الناس على التعاون في ما بينهم إذا كانوا يتقاسمون القيم نفسها لكنهم يحملون خصوصيات مختلفة. لطالما حقق معسكر اليمين النجاح بهذه الطريقة في الماضي، وقد ارتكز حُكم فاليري بيكريس على هذه المقاربة دوماً".

في مطلق الأحوال، تبقى الحملات الرئاسية الفرنسية غير متوقعة. منذ خمس سنوات، كان فيون لا يزال المرشّح الأوفر حظاً في هذه المرحلة من الانتخابات قبل أن تنهار فرصه بسبب اتهامه بارتكاب مخالفات مالية. لكن سواء فازت بيكريس أو خسرت في نيسان المقبل، من الواضح أنها نجحت في إعادة إحياء حزب "الجمهوريون" وجَرّه مجدداً إلى السباق الرئاسي. بدا هذا الحزب منذ أشهر قليلة محكوماً بالانهيار، لكنه أصبح اليوم منافِساً جدياً على الرئاسة وقد يطرح أكبر تهديد على إعادة انتخاب ماكرون.


MISS 3