زيزي إسطفان

من العبقرية إلى "الهبل" والتجوال بين الكواكب

نشأت مجد النور آخر مكتشفي الشياطين

25 كانون الثاني 2022

02 : 00

ديو كارمن ونشأت
من دون دفّ يرقص المجتمع اللبناني، ولا تنقصه ظواهر غريبة ولا نماذج إنسانية عجيبة حتى «يفوع» وينقسم على نفسه من جديد حولها. في فضائه التواصلي تثير هذه الظواهر موجات من السخرية والانتقادات لكنها تجد من يتبناها ويؤمن بها. من «الرسول الحكيم» منقذ الأرض والبشر الى»البرنامج الكوني المخترق» والفيروسات الطارئة، وصولاً الى «الله يخلي الشهداء اللي راحوا». ظواهر تزداد غرابة على ما يبدو مع اشتداد أزمات الوطن ويرتفع منسوب «الدهشة» فيها كما اللامنطق، وصولاً الى حدود السذاجة و»الهبل».





في ما مضى كان غريبو الأطوار كما السذج واصحاب العقول الخفيفة مستورين خلف جدران منازلهم لا يعرف بهم إلا أهلهم والجيران أما اليوم فقد صاروا حديث كل الناس، بعد ان فتحت لهم الـ»سوشيل ميديا» كما شاشات التلفزيون ذراعيها وقدمتهم للعلن نجوماً من كرتون. ظواهر غريبة تتدرج من العبقرية (او ادعائها) الى السخافة والهبل نحاول أن نستكشف ما وراءها.

النشأتجي...

بالأمس أطلت علينا كارمن شماس عالمة الفلك التي اعتاد الجمهور اللبناني والعربي متابعة توقعاتها الفلكية برفقة نموذج إنساني غريب، مدعية أنه الرسول ومعلنة «هنيئاً لنا وللعرب والعالم أجمع برسول مرسل بعد أكثر من 1500 عام، هنيئاً للأرض بابنها البار منقذها من جحيم البشر والأشرار. لو كنتم ترون لرأيتم وهج النور فوق لبنان منذ أسبوعين، ولشعرتم بقوة النور الإلهية ولتأملتم ولعرفتم أنكم أكثر أماناً تحت جناح النور الساطع». والرسول يحمل اسم «الحكيم» نشأت منذر أو نشأت مجد النور وقد انطلق على ما يبدو في عمله النوراني وتنبؤاته من مصر وبعدها جاء الى لبنان ليتمم رسالته الإنقاذية. في إطلالته التي شكلت الحدث في لبنان رغم فظائع ما يجري فيه من أحداث، رسم على صلعته رسومات «مرمّزة» وأمسك بيمينه صولجاناً اشبه بعصا ستارة والتَحفَ بعباءة عربية وراح يلقي عظة حول مستقبل البشرية جمعاء. ولم تكن تلك عظة الحكيم الأولى فالمرسل له آراؤه في كل أمر من تربية الأولاد الى قتل الحيوانات وتناول البيض الذي يسكنه الشيطان، الى اتخاذ الشياطين لأشكال البشر ومن بينهم الزوجة، الى التبصير وعلاج الأمراض المستعصية وحتى الى تشكيل الحكومة اللبنانية. وتبدو الشماس التي استضافت «مجد النور» مرات عديدة عبر برنامج ماورائي يحمل عنوان «مفتاح الاستنارة»، مأخوذة بأقوال الحكيم ومثنية عليها وموافقة على كل عبرة ودرس للشعب الجاهل.

ومن أقوال مجد النور المأثورة: «عصاي السحرية أتنقل بها بين البلدين بدقيقة واحدة، والخاتم أنشر به طاقة حب أو غضب حسب رضاي على شعوبي. وكل شخص يقوم بشتمي سوف يشاهد كوابيس ويصير معه حوادث».

ويوم الخميس تقدم أمين الفتوى الشيخ أمين الكردي بإخبار للنيابة العامة التمييزية ضد المدعو نشأت منذر «الذي يدعي زوراً وبهتاناً أنه رسول مرسل من السماء، وصاحب رسالة سماوية، وطلب من النيابة العامة التمييزية اتخاذ الإجراء القانوني اللازم بحق نشأت منذر وكل من يظهره التحقيق، سنداً لأحكام المادتين 317 و474 من قانون العقوبات». فهل يُسجن المرسل حديثاً من السماء؟

أما كارمن فقد شُهد لها مؤخراً بأقوال مأثورة غيرت فيها التاريخ مثل قولها إن أعجوبة الأرغفة والسمك للسيد المسيح قد حُرفت لأن السمك الذي باركه المسيح وأكثره هو عنب، وكذلك قولها إن الكورونا لن يرحل ما لم يتحول الناس كلهم الى نباتيين ويكفوا عن أكل اللحوم ولا سيما البيض الذي يسكنه الشيطان...


رملاء



مواسم نورانية وأشعار فكاهية

وكأنه موسم نورانيات وماورائيات ولفّات كونية يترافق مع موسم الانتخابات في لبنان. أو كأن الرعب الذي يعيشه اللبنانيون يومياً لا يكفيهم لتضاف إليه توقعات كونية وحروب الفيروسية. فميشال حايك الذي يعتبر مرجعية بالتنبؤ بالمستقبل لم تخل توقعاته لهذا العام من تلميحات كونية، لا سيما أن «البرنامج الكوني قد تم خرقه» وسوف يشهد العالم نتيجة ذلك ظهور فيروسات جديدة غير عابرة لا تتناسب مع طبيعتنا البشرية، وأنه ستكون هناك معارك وحروب من أنواع مبهمة سيوردها النظام الكوني، وستتحول الأمراض إلى أشباح مخيفة... اما مايك فغالي فقد أنذر (او بشّر) اللبنانيين بحقيقة مقلوبة: «الى التراب ومن التراب» ليختلط عليهم ما عرفوه طوال حياتهم في صومهم وصلواتهم. وقد أطل عليهم متسربلاً برداء من الفرو الأسود مطعماً بحبات من الكريستال وممسكاً بعصا تجمع، حسب قوله، كل الحضارات من المايا والإنكا الى الفراعنة والكلدان وتوقع مدن أشباح وحروب فيروسية، لكنه طمأن الى كون لبنان ملك الله ولن يصيبه مكروه.

وإذا كانت ليلى عبد اللطيف بقيت على مستوى الأرض ولم تحلق في الأكوان وما خلفها او تحتها، إلا أن توقعاتها شملت كل الكرة الأرضية وأثارت الذعر في كل الشعوب العربية، في حين حلّقت مريم نور بين الكواكب وبالغت في زيارات دورية لها، فيما وداد جابر إحدى المتوقِّعات الحديثات على الساحة وصديقة الجن كما تصفها المنصة التي تظهر عبرها، أنذرت بحدوث 3 كوارث في مطار بيروت أوحت لها بحدوثها قرينتها من الجن، حسبما قرأناه على المنصة.

وإذا كان لأصحاب هذه الظواهر الغريبة ما يقولونه ويقنعون الناس به رغم غرابته قد باتوا شخصيات حاضرة في وعي الناس لها من يؤيدها ومن يرفضها، فثمة ظواهر أخرى مناقضة لا تقدم اي مضمون لكنها استطاعت أن تحظى لسطحية ما تقدمه وفراغ مضمونه بنسبة عالية من الاهتمام. وما رملاء نكد إلا النموذج الصارخ عن هذه الحالات ومثلها سابقاً مثلاً من كانت تعرف باسم سمارة الحريري وسواهن.

وإذا كانت السخرية هي من صنعت رملاء بعد عبارتها الشهيرة «الله يخلي الشهداء يلي راحوا» فإن الشهرة المستجدة حولتها الى شاعرة فكاهية وفنانة استعراضية لم تسمع لها أية أغنية. وقد اعترفت انها واجهت الناس وتحدتهم وأثرت بهم والجميع يحبونها لأنها البنت البسيطة التي خلعت حجابها. لكن الآتي أعظم وسيكتب عنها التاريخ أنها صنعت بنفسها شخصية رملاء نكد القوية.


مايك فغالي وعصا الحضارات



ظواهر تفتش عن الشهرة والربح

حول هذه الظواهر توجهنا الى الباحثة في علم الاجتماع السياسي د. ميرنا زخريا لنتعرف منها الى أسبابها، فشرحت أن ظاهرة شمّاس ومجد النور تختلف عن ظواهر رملاء ومن شابهها، إذ وعلى الرغم من أنهم جميعاً استخدموا الـ»سوشيل ميديا» للعبور إلى الجمهور إلا أن الثنائي الأول في جعبته «ربح ماديّ لاحقاً»، في حين أن الآخرين في جعبتهم «ربح معنويّ لاحقاً» وأقصى طموحهم أن يعرفهم الناس ويتابعوهم. شماس ورسولها يسعيان للشهرة من خلال إخفاء الذات الحقيقية لنشأت وإظهاره بالصورة التي شهدها الجميع، في حين أن باقي الظواهر تسعى للشهرة من خلال عرض الذات لدرجة استعراض الخصوصيات من تعنيفٍ وطلاقٍ وخلعِ حجابٍ بهدف شدّ الجمهور.

لعلَّ الملاحظة الأساسية حول ظاهرة «مجد النور» تقوم على كيفية «إدارة» نشأته التي أثارت جدلاً تخطّى حدود لبنان، فما شهدناه جميعاً ليس صدفة بل يؤشر إلى وجود خطّة قوامها الإستفادة من الموارد المتوافرة أمامه وأهمها: وُقوفه إلى جانب عالمة فلك لها اسمها ما أعطاه إنطلاقة ناجحة ومتابعين كثراً من اللحظة الأولى، ومن ثم توجّها معاً إلى ربط فيروس كوفيد بأكَلة لحوم الحيوانات وبذلك بدأوا محاكاة جماعات المأكولات النباتية وجماعات الرفق بالحيوان؛ كما لا تَغيب سطوة الاسم الذي اختاره حيث لكلٍ من الكلمات الثلاث (النشأة والمجد والنور) أثرها في الأذن. لكن بالرغم مما تقدّم، فقد سقط «مجد النور» في الإمتحان بسبب أسلوب كلامه الهابط وخاصة لادعائه النبوة.



ميرنا زخريا



وتستطرد زخريا لافتةً إلى أنه ليس بجديد أن يطمح «مجد النور» أو غيره إلى التنجيم كعملٍ قد يدرّ عليه المال، إنما الغريب أن تهبط شمّاس التي يبدو أنها تعاني من ضعفٍ وارتباك ما نتيجةَ اضطرابات موقتة ومفاجِئة من علم الفلك، الذي يُعتبرعلماً أكاديميا إلى التنجيم، ما يؤكد بشكلٍ عام أن الخطوات الإدارية ترفع الفاشل إلى النجاح وتودي بالناجح إلى الفشل.

وحول الأسباب وراء ازدياد ظاهرة المنجّمين وازدياد إقبال المتابعين لهم تقول زخريا: «في السابق كانت كل الصحف والمجلات تخصّص قسماً للتوقعات والأبراج، ومع انتشار الإنترنت أصبحت هذه بمتناول الجميع ما سهّل متابعتها لا سيما خلال جائحة كورونا، ومع الإنهيار الإقتصادي الذي أدى إلى زيادة في متابعة مروحة واسعة من مواقع التواصل من دون تكلفة، كما باتت المحطات التلفزيونية كلها تروّج ليس فقط للفلكيين ولكن أيضاً للمنجّمين بالأخص ليلة رأس السنة.

من جهة أخرى يميل الناس إلى اللجوء للفلكيين وللمنجّمين خلال فترات مرورهم بمراحل من القلق الناتج عن مشكلات وأزمات مختلفة والإنسان بطبعه يميل لسماع الغيب، فكيف في أوقاته الصعبة وإذا وصله من كل حدبٍ وصَوب».

ونسأل عن باقي الظواهر التي اجتاحت في الآونة الأخيرة مواقع التواصل وشاشات التلفزيون، مثل رملاء وسمارة وبعض الفاشونيستا فهل الأزمات هي الدافع الوحيد لإرتفاع الرايتنغ عندهم؟

كل منتَج جديد، تؤكد زخريا، يحتاج إلى تسويق، وإلا لن يعلم به أحد؛ وإن يكن صحيحاً أن هذه الظواهر تتزايد خلال الأزمات، إلا أن الصحيح أيضاً أنه لولا إمكانية تسويقها على مواقع التواصل الإجتماعي، لما انتشرت بهذه السهولة غير المكلفة، بالإضافة إلى أنه ومع بداية العصر الواحد والعشرين، تحجَّمت موجة الإيديولوجيا ذات القناعات والقيود المسبقة وترسّخت موجة التكنولوجيا ذات الحرية التواصلية غير المشروطة، ما أدى إلى إعطاء الشهرة لمَن يستحقها ومَن لا يستحقها على حدّ سواء، وذلك على عكس البرامج التلفزيونية التقليدية حينما كانت لجنة التحكيم تضع المعايير وتُحدّد الفائز من غيره.

وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم الاستهانة بعامل الجرأة، إذ كلما استَسهلت هذه الشخصيات فضْح الأسرار وتضخيم الأخبار، علا منسوب الحشرية عند الجمهور وزاد انتشارها على المواقع وتسابق كبار الإعلاميين على محاورتها، وبالتالي على تزويدها بشرعيّة إعلانيّة لا سيما بعدما صار قسم لا يستهان به من جمهور الشاشات يرصد «التسلية الممزوجة بالعفويّة» بدل «الجودة الممزوجة بالتركيز».

وتختم د. زخريّا الموضوع بالقول: «إن للشُهرة بريقاً كيفما أتَت، ولكن الجمهور يميّز بين شخص طموحه أن يكون مشهوراً حتى لو كان فارغ المحتوى وآخر طموحه أن يكون ناجحاً ما قد يوصله لشهرة مستحقة عامِرة بالمحتوى. وبالرغم من أنه لا يحق لأحد أن يقف بوجه هذا أو ذاك، إلا أنه لا يخفى بأن هذا نال شهرةً مع تقدير وذاك لا تقدير له رغم انتشار ظاهرته وسوف تطويه صفحات النسيان عاجلاً أم آجلاً.


MISS 3