قد لا تكون أعياد الفصح والفطر حافلة بالحلويات في لبنان المأزوم اقتصادياً هذه السنة، ولكن المنتج جمال سنان وشركة "إيغل فيلمز" جعلا الصائمين وغير الصائمين عن "الحلو"، يفطرون ويعيّدون كل ليلة مع "الشغل الحلو". إنه مسلسل "للموت2" الذي استحق محلياً وعربياً لقب "معمول الدراما بالجوز واللوز والفستق والتمر والقشطة والإنتاج والإخراج والنص والتمثيل" في السباق الرمضاني.
لن نتوقف كثيراً عند مايسترو نجاح المسلسل، المخرج فيليب أسمر، الذي سبق أن خصصنا له مقالاً كاملاً ووزّعنا "المغلي" لولادة الدراما اللبنانية من جديد على يديه "خلقة كاملة نعمة زائدة". بحرفيته العالية، ورؤيته المختلفة دائماً، اهتمامه بكافة التفاصيل، وذوقه الفني المميّز، وإدارته الفنية الاستثنائية (برفقة فريق محترف) وإصراره على تسخير الوقت لصالح النتيجة المبتغاة، والإعادة عشرات المرّات لاقتناص اللقطة المطلوبة، اسم فيليب أسمر أصبح بصمة إبداع على أي عمل يتولاه، فكيف بالأحرى إذا توافرت للمسلسل كافة المكونات الأخرى الأساسية للنجاح؟
البداية مع السيناريو الذي أعدته الكاتبة نادين جابر، وخاضت عبره تحدياً كبيراً، وأثبتت من خلاله أنها متمكّنة من كافة أدواتها. مهمة إعداد جزء جديد لا يقل أهمية وقوة عن الأول، لم تكن سهلة، خصوصاً أن الحبكة والشخصيات التي حيّرتنا في أول جزء، لم تعد عامل مفاجأة لنا في الثاني. ورغم ذلك، نجح "للموت2" الذي يدور في فلك انتقام الشخصيات من بعضها البعض، لأنه لا يقل متعة وتشويقاً ومفاجآت في الأحداث وغنى بالشخصيات عن الأول. كما أنه مكتوب بسلاسة كبيرة، رغم تداخل حابل الأحداث المثيرة والكثيرة بنابل شخصيات عديدة، نصدّقها كلّها لأنها جداً مقنعة. اللافت أيضاً أن السيناريو يمزج الدراما والمناخ الأسود بالطرافة والابتسامة، والجو المتخيّل "الفيكشن"، بآخر حقيقي ومرتبط بواقعنا اللبناني الحالي (الانهيار الاقتصادي وغلاء الأسعار والفساد وأطفال الشوارع...) من دون أي وعظ أو كليشيات أو مطوّلات مملة أو عمليات تجميل وترقيع للواقع. نص لا يخاف الغوص في الأعماق مهما كانت حالكة وقاحلة، ويحسن زرع ضحكة في قلب المأساة بشكل طبيعي جداً، ويهتم بأدق التفاصيل ولا يترك شيئاً للصدفة، ويخلط التشويق بالإثارة، والغموض بالمفاجآت، والوجع بالابتسامات، والأحداث النافرة بالشخصيات الاستثنائية التي يحمل كلّ منها خلفيات وأبعاداً ومفردات خاصة أصبحت محط كلام عند الجمهور. شخصيات عديدة، وكلها بطلة، للقطة أو لمشهد أو لاكثر، وكلها لديها مساحتها ولحظاتها، أكانت شخصية في دور أول أو ثانٍ، لا فرق. شخصيات يجسّدها ممثلون محترفون أمثال رندة كعدي، الملكة التي يستحيل أن تكرّر طريقة أدائها وتفاصيل رسمها للشخصية، حتى ولو كانت الشخصية تحمل كثيراً من الطيبة والأمومة التي اعتادت تقديمها، والقيمة المضافة أحمد الزين، الرائع بطيبته وعفويته ورومنسيته وحبّه لحنان في الجزء الأول ومرضه وبداية نسيانه لها في الثاني، وكارول عبود المدهشة بتركيبها شخصية سارية الطريفة والوصولية والباحثة عن مصلحتها على حساب الجميع، وفادي أبي سمرا (ضحكة المسلسل) بشخصيته الظريفة التي يجبرنا أداؤه المتقن أن نحبها رغم انتهازيتها، وختام اللحام المقنعة دائماً، حتى ولو عبر شخصية مكرّرة باتت علامتها الخاصة، والممثلة الصغيرة صاحبة الموهبة الكبيرة والمستقبل الأكبر تالين أبو رجيلي بدور خلود. أما الاستثنائية ليليان نمري، فنبصم بالعشرة لموهبتها الاستثنائية والمخيفة بقدرتها على إبهارنا وإقناعنا في كل مرة، من خلال تركيبها شخصيات نافرة وغير تقليدية، بكافة تفاصيلها النفسية والشكلية، الفكاهية أو الدرامية، الطيبة أو المخيفة. بدورها جويل داغر تستحق التهنئة، فرغم مسيرتها الطويلة، بدت للمرة الأولى (برأيي) مقنعة جداً وممثلة فعلية يحسب لها ألف حساب. هذا من دون أن ننسى بعض حبوب الكرز على قالب المسلسل الذين تركوا نكهتهم الخاصة عبر إطلالات قصيرة، أمثال كميل سلامة ونقولا دانيال وكارمن لبس ونوال كامل.
مسك الختام مع أبطال المسلسل، والبداية مع معمول "الجوز سحر وريم" اللتين تحوّلتا "ريا وسكينة" لبنان، وتألقتا في أداءات ممتعة، متقنة، لا نملّ من تذوّقها، من دون أن نعتاد على طعمها، فمع كل قضمة، نكهة جديدة ستفاجئنا. ماغي بو غصن في دور عمرها من دون أدنى شك، خصوصاً أنّه خلطة مدهشة من الدراما القوية التي جاهدت واجتهدت طويلاً للتربّع على عرشها، والطرافة الظريفة التي لطالما كانت تليق بها وبخفة ظلها، رغم بعض المبالغات اللفظية التي قد تصدم وقد يعتبرها البعض مبالغة، ولكنها مفصّلة على قياس شخصية سحر السوقية وابنة شارع الذل والفقر واليتم والتسوّل. ماغي بو غصن تتنقل بسلاسة كبيرة بين الدراما والمأساة والوجع والقهر والطرافة والدهاء والسوقية و"الملعنة" والقسوة والرومنسية، من دون أي خطوة ناقصة، لأنها رسمت وتشرّبت شخصية سحر بكل ملامحها وتفاصيلها ومزاجها، فأصبحتا كياناً واحداً.
ومن سَحر، إلى الساحرة دانييلا رحمة التي لم تكتف بالموهبة والجمال، فهي تستعين دائماً بمدرب على الأداء لتدعم موهبتها وتترجم مشاعرها وتركّب أوجه شخصيتها، وتطوّر أداءها وطريقة نطقها وتفاعلها. وهكذا استطاعت بفترة قصيرة أن تتحوّل من مجرد امرأة جميلة إلى ممثلة فعلية وخطيرة. خطيرة بكافة أدواتها، نطقاً وصمتاً، حركة وجموداً، جنوناً وهدوءاً. أما أقوى أدواتها، فهي عيناها اللتان تشتعلان وتنطفئان وتتكلمان عنها وعن وجعها وضياعها وشغفها وجنونها وضعفها وقوّتها.
باسم مغنية هو "معمول بتمر" المسلسل، لأنه يشبه ثمرة التمر الشهيرة بقيمتها الغذائية العالية والمتكاملة، فهو يمتلك كافة المكونات الفنية في مكوّن واحد. مدهش هو بشخصية عمر، وهي شخصية مركّبة وصعبة لما تحتويه من تناقضات، فعمر قوي حيناً وضعيف معظم الوقت بسبب إدمانه المخدرات والحب من طرف واحد، والشغف بطريقة مطلقة وعمياء، واندفاعه الانفعالي بلا تفكير أو منطق، وسذاجته التي يسهل التحكّم بها وتحريكها. شخصية ركّبها مغنية باحترافية كبيرة، فأقنعنا بها وأصبحت توأمه.
أما الممثل السوري محمد الأحمد فهو "معمول بالفستق الحلبي" (مع أنه من مواليد حمص)، وصاحب كاريزما عالية وحضور آسر وأداء تحيط به هالة من الغموض المحيّر دائماً. لقد نجح الأحمد أن يشكل مع رحمة ثنائياً مشرقطاً بالكيمياء التي تجمعهما، وممتعاً بلعبة القط والفأر العاطفية بينهما. بدوره الممثل بديع أبو شقرا موفق أكثر في هذا الجزء بشخصية أمير الرجل الثري والمريض الذي تغلّب حبه لسحر على رغبته في الانتقام منها، فقرر إنهاء حياته قربها. بديع يثبت لنا ولنفسه أن أهمية الدور ليست في مساحته، فحضوره المحدود نسبياً طاغٍ، وأداؤه متقن، ودور العاشق الحنون معجون بطيبة عينيه، ومشهده مع سحر المستوحى من فيلم "تيتانيك"، أدخل نفحة من الرومنسية والحلم على أجواء المسلسل الدرامي. ورغم أن أمير مات كجاك بطل التيتانيك لينقذ حبيبته، سيظل مرور بديع حيّاً في ذاكرتنا، وسيظل "للموت" بجزءيه الأول والثاني وبشخصياته وحبكاته وأجوائه، من أهم نجاحات الدراما اللبنانية والعربية.