آنا ريد

أي أوكرانيا بعد الحرب؟

31 أيار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

أضرار الغزو الروسي على شارع في منطقة ماريوبول
بعد مرور عشرة أسابيع على غزو أوكرانيا، يصعب أن يتوقع أحد طريقة انتهاء الحرب أو توقيت نهايتها. انسحب الجيش الروسي من محيط كييف في أواخر شهر آذار، لكنه يتابع قصف مدينتَي "خاركيف" و"ماريوبول" ويتقدم ببطء شرقاً وجنوباً، رغم المقاومة الأوكرانية الشجاعة. كان اكتشاف الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الروسي بحق المدنيين نقطة تحوّل أخلاقية في الحرب. وتُعتبر المقابر الموَقتة التي اضطر السكان لحفرها لدفن أقاربهم خارج أحيائهم السكنية من أكثر المشاهد الصادمة في مدينة "بوتشا" المُحرّرة ومناطق أخرى في ضواحي كييف.

يعيش الأوكرانيون حياتهم اليومية من دون التفكير بالمستقبل. انفصل معظمهم عن عائلاتهم ولا شيء يضمن أن يعود بلدهم إلى وضعه السليم أو ألا يستهدف صاروخ طويل الأمد جدار غرفة نومهم خلال الليل. يتكيّف الكثيرون مع وضعهم عبر المشاركة في جهود الحرب. من الغرب إلى الشرق، يقود الناس على مدار الأسبوع شاحنات مُحمّلة بالمواد الغذائية أو المستلزمات الطبية، أو يُحوّلون الملابس الممزقة إلى شبكات تمويه، أو يديرون مراكز مخصصة للأولاد النازحين، أو يوزعون الطعام والشاي في محطات سكك الحديد.

لكن رغم جميع المآسي والشكوك المنتشرة في كل مكان، بدأ البعض يفكّر بشكل البلد في مرحلة إعادة الإعمار بعد استرجاع درجة نسبية من السلام (يستعمل الناس كلمة "انتصار" ولا أحد يتكلم عن "انتهاء الحرب"). سيكون الوضع الأمني بالغ الأهمية في تلك المرحلة: حتى لو تحققت أفضل السيناريوات المتوقعة، يدرك الأوكرانيون أن الصراع سيستمر على الأرجح في شرق البلاد مستقبلاً وقد يدوم لسنوات طويلة. كذلك، سيحتاج البلد إلى معالجة الأضرار الاقتصادية والخسائر الناجمة عن هرب أكثر من خمسة ملايين مواطن، إذ يجب أن يقتنع هؤلاء بصوابية العودة إلى بلدهم. في الوقت نفسه، يجب أن تبذل الحكومة الأوكرانية جهوداً استثنائية لتجنب الغرق في الفساد مجدداً، علماً أنها تطالب منذ الآن بمليارات الدولارات لإعادة إعمار البلد. أخيراً، لم تتّضح بعد مكانة أوكرانيا في الغرب بعد نهاية الحرب.

فيما تبحث أوكرانيا عن مصادر جديدة للعائدات، يجب أن تحرص على إنفاق ما تملكه الآن بطريقة مدروسة. منذ بدء الحرب، التزم القادة الغربيون الصمت حول الفساد المستفحل محلياً منذ استقلال أوكرانيا في العام 1991، لا سيما في القطاع العام، ومن المستبعد أن تتحسّن هذه المشكلة في ظل تدفق المساعدات بعد الحرب. رغم الاختلاف الشديد بين أوكرانيا وروسيا على مستوى الثقافة السياسية (يشمل البلد وسائل إعلام حرّة ومجتمعاً مدنياً حيوياً، وتبقى نتائج الانتخابات فيه غير متوقعة)، عجزت كييف عن التخلص من بعض الممارسات السوفياتية القديمة. يستطيع المواطنون أن يُسهّلوا حياتهم اليومية عبر اللجوء إلى معارفهم أو دفع الرشاوى. كذلك، تبقى المحاكم والنيابة العامة بطيئة ومسيّسة، وغالباً ما يفرض الأوليغارشيون قراراتهم من وراء الكواليس.

خلال السنوات التي سبقت الغزو، نجحت الضغوط الدولية في فرض إصلاحات معينة في كييف، منها نظام مشتريات حكومي عبر شبكة الإنترنت، ومكتب وطني ومحكمة عليا جديدة لمكافحة الفساد تحت إشراف خبراء أجانب في القانون. لكن في العام 2021، احتلت أوكرانيا المرتبة 122 من أصل 180 بلداً على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، فتعادلت مع إيسواتيني وتفوّقت بدرجة بسيطة على روسيا. وفي تشرين الثاني الماضي، وقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على تشريع جديد ومضاد للأوليغارشية وحوّله إلى قانون رسمي، لكنه حرص لاحقاً على استعماله لاستهداف خصمه السياسي والرئيس السابق بيترو بوروشينكو المعروف في قطاع صناعة الحلويات. استمرت هذه المشاكل تزامناً مع احتدام الحرب. في شهر آذار، ضبطت الجمارك المجرية أموالاً نقدية بقيمة 28 مليون دولار في أمتعة زوجة نائب أوكراني سابق، لكن ذكرت الصحافة الدولية خبراً مقتضباً عن هذه الحادثة.

لهذه الأسباب، تأمل شريحة واسعة من الأوكرانيين الأصغر سناً في إطلاق أكثر الإصلاحات إلحاحاً تزامناً مع إنهاض البلد من أنقاض الحرب. قد تشرف هيئة مستقلة على أموال إعادة الإعمار، فتتجاوز بذلك جميع المناصب الحكومية.

اليوم، يُفترض أن تتمحور معظم التوقعات حول السؤال التالي: لمن ستكون أوكرانيا الجديدة؟ لم يصبح هذا الموضوع محط نقاش واسع بعد، لكن يشعر الكثيرون في كييف بالقلق من امتناع الأوكرانيين الذين غادروا البلد منذ شهر شباط الماضي عن العودة إلى وطنهم (كانت هذه الهجرة الجماعية من أسرع الموجات التي شهدتها أي منطقة في العالم منذ نهاية الحرب الباردة). وفق أحدث التقديرات، قصد حوالى ثلاثة ملايين أوكراني بولندا. وبما أن الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاماً لا يُسمَح لهم بالرحيل، يتألف معظم اللاجئين من النساء والأولاد. تعجّ مدينة "لفيف" الغربية بالعائلات القادمة من أقصى الشرق، لكن لا يمكن رصد ولو طفل واحد في كييف. إذا استمر القتال، تتوقع الأمم المتحدة أن يغادر ثلاثة ملايين آخرين البلد بحلول نهاية هذه السنة، أي ما يساوي 20% من سكان أوكرانيا قبل الغزو. نتيجةً لذلك، لا مفر من تغيّر التركيبة السكانية وسيتّضح النقص تحديداً وسط فئة النساء في سن العمل.

لإقناع الناس بالعودة إلى بلدهم، يجب أن تؤمّن لهم كييف فرص عمل مناسبة. تُسابق المنظمات غير الحكومية الوقت منذ الآن لإعادة تشغيل البلد قبل أن يبدأ اللاجئون حياة جديدة ودائمة في الخارج. يقول مؤسس مشروع اجتماعي في "لفيف": "يغادر حوالى 50 ألف شخص البلد بشكلٍ نهائي أسبوعياً". يشتكي آخرون من تصرفات منظمات دولية مثل الصليب الأحمر، كونها تساعد أشخاصاً متواجدين في مدينة "لفيف" الآمنة للذهاب إلى بولندا. لكن يتعلق دافع آخر للرحيل بالتعليم. أغلقت المدارس الأوكرانية أبوابها منذ تفشي فيروس "كوفيد-19" وتحوّلت الآن إلى أماكن إقامة موَقتة للنازحين، بما في ذلك المدارس الواقعة في مناطق بعيدة عن القتال.

في أفضل الأحوال، يستطيع الأولاد أن يتلقوا تعليماً عبر الإنترنت، سواء بقيوا في أوكرانيا أو هربوا إلى الخارج. وإذا نجحت الدول الأوروبية في تأمين مدارس جديدة لأولاد اللاجئين الأوكرانيين ثم استقر فيها هؤلاء الأولاد بكل سرور، ستحصل العائلات على دافع قوي للبقاء في الخارج. تدعو النائبة المعارِضة أليونا شكروم الحكومة الأوكرانية إلى تشريع الجنسية المزدوجة، وإلا قد يضطر الناس للاختيار بين عملهم وجواز سفرهم. من الأفضل إذاً أن يتشجع العمال على تكرار رحلات الذهاب والإياب، ويتابعوا دفع الضرائب، ويحافظوا على روابطهم ببلدهم الأم حتى لو كان عملهم الأساسي في الخارج.

لكن قد تترافق التقلبات السكانية الاستثنائية مع بعض المنافع في نهاية المطاف. نظراً إلى ارتفاع العدد السكاني المحلي وتراجع مستوى المداخيل نسبياً، من المستبعد أن تحصل أوكرانيا على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي في أي وقت قريب. لكن أنشأت التدفقات السكانية المتواصلة روابط أوروبية واسعة. بسبب الحرب، اضطر الجيل الشاب من الأوكرانيين لتدبّر أموره بنفسه والتكيّف مع الأوضاع المستجدة، حتى أن البعض يطوّر علاقات خارجية مثمرة ويكتسب مهارات لغوية جديدة: ستكون هذه القدرات مفيدة جداً إذا نفّذ الاتحاد الأوروبي وعوده بمنح أوكرانيا جزءاً من منافع تطوير العلاقات مع الاتحاد.

بدأت بولندا تحديداً تُطوّر شراكة جديدة مع أوكرانيا. قبل بدء الحرب الراهنة، كانت بولندا تشمل أصلاً أكثر من ربع مليون عامل أوكراني موَقّت. وبعد تضخّم هذا العدد نتيجة وصول ملايين اللاجئين إلى البلد، أصبحت فرص توسيع العلاقات الاقتصادية بين البلدَين واضحة. يشارك العمال الأوكرانيون في تشغيل الاقتصاد البولندي، مثلما قدّم البولنديون مساهماتهم إلى الاقتصاد البريطاني قبل حقبة «بريكست». كذلك، يشدد الطرفان على حجم التعاطف الذي كسبه الأوكرانيون وسط الرأي العام البولندي. في هذا السياق، يقول المذيع البولندي جاسيك ستافيسكي: «نحن لا نعتبر استقلالنا آمناً إلا إذا كانت أوكرانيا آمنة. لا مفر من وقوع الاضطرابات وسيحاول بعض السياسيين الهامشيين الاستفادة من هذه الظروف، لكن لا يطرح هذا الوضع مشكلة برأيي».

بعد تضرر مساحات واسعة من المدن الأوكرانية أو تدميرها بالكامل، تتعلق مشكلة أكثر إلحاحاً بإصلاح البنية التحتية المحلية. جَمَع المخطط الحضري ألكسندر شيفشينكو أكثر من مئة محترف للتفكير بكيفية إعادة إعمار أوكرانيا كلها. يبحث أعضاء في فريقه عن الطرق المعتمدة أصلاً في السويد لإعادة تدوير الركام الخرساني، ويفكر آخرون بطريقة لمنع المستوطنات الجديدة التي يستقر فيها النازخون في غرب البلد اليوم من التحول إلى أحياء للأقليات. يشكّل الدمار أيضاً فرصة لإعادة النظر بطريقة تصميم المناطق الحضرية الجديدة، ومنحها طابعاً مجتمعياً مضاعفاً، وجعلها أقل ازدحاماً.

لن تتحقق جميع الأحلام المرتبطة بالأمن، وازدهار اقتصاد معاصر، وإعادة العائلات إلى الوطن، وبناء مدن جديدة انطلاقاً من خطط مدروسة. لكن يثبت بدء هذا النقاش، تزامناً مع استمرار الحرب الوحشية، مدى تصميم الأوكرانيين على الانتصار وإلى أي حد زاد تمسّكهم بوحدتهم وهويتهم للتصدي للتهديدات الروسية. في النهاية، يقول دميترو ناتالوخا، نائب شاب بارز في البرلمان الأوكراني: "ما من طريقة تقليدية لإعادة بناء بلدٍ تدمّر أكثر من نصف ناتجه المحلي الإجمالي. لقد أصبحنا في وضعٍ يفرض علينا تقبّل جميع أنواع الأفكار الجامحة والمفاهيم الجريئة".