جوزيفين حبشي

بعدما غزتنا عسكرياً في الماضي...

لبنان يغزو تركيا فنيّاً في الحاضر

31 أيار 2022

02 : 01

عالحلوة والمرة
العام 1516 احتل العثمانيون لبنان الذي ظل تحت حكمهم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. في العام 2008 عادت تركيا لتغزو لبنان مجدداً، ولكن هذه المرة ليس عبر اجتياح عسكري بقيادة جمال باشا السفاح، بل من خلال هيمنة فنية درامية، جيشها عشرات الممثلين الاتراك مثل مهنّد ونور وسمر ويحيى ولميس الذين رفع لهم الجمهور اللبناني الرايات البيضاء استسلاماً لسحرهم. وبعد حوالى 15 عاماً على الغزو التركي للبنان، شنّ العالم العربي بواسطة اسطول محطة "MBC" هجوماً مضاداً على الأراضي التركية، فتمركز في اسطنبول، وبدأت مرحلة استعمار معرّبة لمسلسلات تركية. أبرز جيوش هذه الحملة الفنية الجديدة هم الممثلون اللبنانيون.

العام 2006 بدأت تركيا تصدير مسلسلاتها الى العالم كله. وفي تقرير نشرته صحيفة حرييت التركية في 15ايلول 2008، تبيّن أن 22 دولة تستورد هذه المسلسلات، ولقي معظمها رواجاً كبيراً في مصر والإمارات وسوريا والعراق والأردن و... لبنان.

لبنان الذي أضعفت الحرب عجلته الإنتاجية، كان قد وقع قبل الغزوة التركية ، تحت سطوة اجتياح مكسيكي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. يومها تولّت شركة "فيلملي" لصاحبها المخرج نقولا أبو سمح عملية الدبلجة بالفصحى مع اشهر أصوات الممثلين اللبنانيين مثل سميرة بارودي والسي فرنيني ووحيد جلال وألفيرا يونس وجيزيل نصر، ووفاء طربيه وغيرهم. وهكذا اصبح المسلسل المكسيكي "هو أو لا احد" واصبح الجمهور اللبناني لا يحلف سوى بحياة راكيل وانطونيو وماريا مارسيدس وغوادالوبي وخوان الغول، حتى انه اطلق أسماءهم على أولاده ومتاجره ... هذا الهوس دفع الإنتاج العربي- اللبناني لشن هجوم مضاد بعد فترة، بقصد تحقيق مكاسب مادية وفنية. وهكذا انطلقت موضة تحويل مسلسلات مكسيكية الى العربية، كما حصل مع "روبي" الذي عرض سنة 2012 على قناة "MBC4" أولاً، وحقق نجاحاً كاسحاً وكان من اخراج رامي حنا ونص كلوديا مرشليان وبطولة سيرين عبد النور وتقلا شمعون وديامان بو عبود ومكسيم خليل وامير كرارة. الظاهرة عادت وتكررت مع مجموعة مسلسلات، نذكر منها "الحب الحقيقي"، وهو انتاج لبناني بحت (LBC ومي ابي رعد ). يومها شبّه رئيس مجلس إدارة "LBC" بيار الضاهر هذه الظاهرة بالموضة التي يطلقها مصمّمو الأزياء فتتحوّل "ترند" .



مسلسل روبي



من هيمنة مكسيكية الى تركية

الاجتياح المكسيكي للبنان بدأ يخبو تقريباً في الالفية الثانية، ليتوهج مكانه الاجتياح التركي، رغم عودة الانتاجات اللبنانية بقوة بعد فترة ركود بسبب الحرب. فعلى ما يبدو انجذب المشاهد العربي الى المسلسلات التركية لأنّها أقرب إلى مجتمعاتنا الشرقية وعاداتها وتقاليدها، وتقدم الرومنسية التي يتوق اليها العالم العربي، إضافة الى سحر الممثلين الاتراك وجمالهم، والى التصوير في مناطق خلابة جعلت من تركيا المقصد السياحي لملايين العرب واللبنانيين منذ بدء عرض هذه المسلسلات. فحسب صحيفة حرييت التركية، عرض المسلسلات التركية في البلدان العربية أدى إلى زيادة التدفق السياحي إلى تركيا بشكل كبير منذ العام 2006 ، كما تحوّل القصر الذي تم فيه تصوير مسلسل "نور" (اول مسلسل عرض في العالم العربي) إلى مزار سياحي. بدورها ساعدت اللهجة السورية في انتشار تلك الأعمال، خصوصاً أن الدراما السورية كانت قد حجزت مكانها المرموق في العالم العربي، وبدأت تسحب البساط من تحت قدمي الدراما المصرية التي كانت تتربع على العرش لعقود طويلة.

عروس اسطنبول أصبحت بيروتية


اليوم، ورغم مرور 15 عاماً على الاجتياح التركي، لا تزال حماه تتأجج في لبنان. المسلسلات التركية هي الأولى على قائمة المشاهدات على شاشات التلفزة اللبنانية. والمستفيد الأكبر هو تركيا التي نجح صنّاع الدراما لديها في الترويج لاعمالهم، وجذب الانتاجات الراغبة في تعريب أعمالهم، للتصوير على ارض وطنهم، وتنشيط الاقتصاد بعد السياحة، إضافة الى تجارة الأزياء، فمعظم اللبنانيين باتوا يقصدون المدن التركية لشراء ثياب مثل ثياب سحر وفيروز خانم وجوليا ويلدز... وتماماً كما حصل مع موضة تحويل المسلسلات المكسيكية الى العربية، انطلقت منذ العام 2018 ورشة عربية بقيادة استديوات "MBC" لاعادة تعريب سلسلات تركية. وهنا لا يمكننا سوى ان نقول بأن "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فلبنان الذي كان يُحكى بأن سيتحوّل استديو التصوير الحاضن لهذه السلسلات، كان اغلى تكلفة مقارنة بتركيا، إضافة الى بدء تأزم وضعه السياسي الذي ادّى لاحقاً الى انهيار دراماتيكي على الصعيد الاقتصادي. وهكذا انتقل المشروع الذي كان لينعش لبنان في حال تم في بيروت، الى اسطنبول. البداية كانت مع تعريب مسلسل "عروس إسطنبول" الذي تحوّل "عروس بيروت" وحقق نجاحاً كاسحاً عند عرضه سنة 2019 على محطة "MBC"، مما دفع منتجيه لتقديم 3 أجزاء منه. أسباب نجاح النسخ العربية عديدة فالمسلسل التركي هو احد انجح الاعمال الدرامية الاجتماعية بانتاجه الضخم وقصته القائمة على عائلة ثرية ومترابطة بفضل حزم الام، ستهب عليها رياح التغيير مع دخول عروس غريبة عليها ومع ظهور اسرار قديمة. هذه القصة الصلبة تشبه الى حد كبير واقع عائلاتنا اللبنانية والعربية، مما سهّل التماهي معها. وشكّل اختيار الممثلين الموفّق جداً، حبة الكرز التي منحت المسلسل نكهة مميّزة. صحيح ان ابطال الممثل خلطة عربية، ولكن حضور الممثلين اللبنانيين كان طاغياً ولافتاً، من كارمن بصيبص وجو طراد ورفيق علي احمد، وخصوصاً الاستثنائية تقلا شمعون التي تقمصت ملامح سيدة القصر ليلى الضاهر. تصف تقلا شمعون التجربة بالناجحة والمميّزة، فالتعاون الفني والثقافي بين دول عدة، من شأنه إغناء الممثل والعمل على حد سواء. وتؤكد تقلا أن أسرار نجاح "عروس بيروت" عديدة، من انتاج ضخم وقصة قوية وجيدة وممثلين مقنعين وفريق فني وتقني محترف. ولكن العنصر الأساسي للنجاح برأيها، هو الأجواء العائلية التي جمعت طاقم العمل. "لقد شكّلنا عائلة كبيرة ومتكاتفة، وهذا ما ترك أثراً إيجابيا على سير العمل. كما أن الاحترام والمساواة في المعاملة الجيدة التي فرضها فريق الإنتاج على كافة الممثلين، من دون أي تفرقة بين نجم بدور أول او ممثل بدور ثانوي، شكّلت عاملاً أساسيا في نجاح العمل. كنا نتناول الطعام مع بعضنا البعض، وكان لدى كل الممثلين كرافانات للراحة والاسترخاء. بعضها مشترك وبعضها الآخر فردي، وهذه الفردية لا علاقة لها بالنجومية بل بحجم الدور وصعوبته، لذا كان البعض يحتاج الى الانفراد والهدوء للمراجعة والتحضير للتصوير".




عروس بيروت 1


العرس التركي - العربي مستمر

نجاح "عروس بيروت" على كافة الصعد شجّع مجموعة "أم بي سي" على اطلاق تصوير مجموعة من المسلسلات، نذكر منها الكوميدي الرومنسي "على الحلوة والمرّة" المأخوذ من المسلسل التركي "في السرّاء والضرّاء" الذي لم يحقّق نجاحاً في تركيا، وكانت نسبة مشاهدته ضعيفة، فتوقّف عند الحلقة السادسة. ولكن المسلسل العربي لم يتأثر كثيراً بمصير شقيقه التركي، فحقق مقداراً معقولا من النجاح، (لا يقارن بنجاح "عروس بيروت") وتابعه اللبنانيون خصوصاً ان البطولة كانت لممثلين محبوبين مثل كارمن لبّس وجو طراد ونيكولا معوض وباميلا الكيك إضافة الى السورية دانا مرديني. اليوم، إسطنبول هي وجهة رئيسية للإنتاج الدرامي العربي، ومجموعة كبيرة من الممثلين اللبنانيين متواجدة حاليا على ضفاف البوسفور، تشارك في عدد من مسلسلات قيد التصوير. هذه الظاهرة تتوقف عندها النجمة تقلا شمعون، فرغم ترحابها بتجارب التوأمة هذه، (تركية كانت او أوروبية من خلال مشاركتها في أفلام سينمائية) الا انها تؤكد تمسّكها بالانتاجات المحلية. تقول تقلا شمعون: "الصناعة الفنية القائمة على توأمة مع دول أخرى، مفيدة لأنها تصب في مصلحة تطوير المنتج المحلي والمساهمة في تبادل الخبرات وعدم الغاء الخصوصية. هذه الصناعة لا يجب أن تلغي الانتاجات المحلية، فلكل دراما عربية خصوصيتها ويجب المحافظة عليها لأنها تضيء على واقعنا، وتشكّل فرص عمل وفيرة لكثير من الفنيين والتقنيين من أولاد البلد. الممثل اللبناني والعربي يستطيع السفر للمشاركة في اعمال فنية، ولكن ماذا عن المخرج والكاتب والتقني؟ التوأمة مفيدة، ولكنها لن ولا يجب أن تؤثر على دور الدراما المحلية".

طبعا كلنا نتمنى التوفيق لكافة الممثلين العرب بشكل عام، واللبنانيين بشكل خاص المتواجدين في تركيا بداعي العمل، وعلى سبيل الذكر لا الحصر رندة كعدي ورفيق علي احمد وجان قسيس وفيفيان انطونيوس وبديع أبو شقرا وندى ابو فرحات. وطبعاً لسنا ضد أن يغزو الممثل اللبناني العالم بأسره بفنه الراقي وابداعه الذي لم يعد بحاجة لأي إثبات، ولكن بشرطين اثنين: أن يقدّم أولاً أعمالاً ترضي طموحه الفني وتحقق له مكاسب مادية ومعنوية تلائم مكانته وخبرته، وثانياً والاهم أن تظل الانتاجات المحلية هي مظلته ومرجعه والملجأ الذي لا غنى عنه.


MISS 3