يوسف مرتضى

جورج حاوي غُيّب جسداً... لكنه باقٍ فينا فكراً ونهجاً

21 حزيران 2022

02 : 00

سبعة عشر عاماً انقضت على اغتيال القائد الوطني جورج حاوي، وحتى هذا اليوم لم يُكشف عن القتلة، إما لأن القضاء اللبناني لم يعر هذا الملف أي اهتمام، أو كُفت يده من قبل قوى الأمر الواقع كما حصل مع ملفات اغتيال سياسية أخرى، وكما هو حاصل في ملف جريمة انفجار المرفأ. ما علمناه بعد أشهر على اغتيال جورج حاوي، أن قوى الأمن الداخلي قد تمكنت من وضع اليد على خيوط جدية في هذا الملف، لكن جرى التكتم عليها لاحقاً بأمر من مجهول معلوم. وبعد صدور الحكم المبرم من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بإدانة عضوي «حزب الله» حبيب مرعي وحسين عنيسي بجريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري و22 آخرين من رفاقه، أرى أن هذا الحكم لا بد أنه يشمل ضمناً قتلة الشهيد جورج حاوي، لأنهم هم أنفسهم، أخذاً بالاعتبار ما كانت المحكمة قد أشارت إليه من ترابط واقعي بين حيثيات اغتيال الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وتلك المرتبطة باغتيال الشهيد جورج حاوي ومحاولتَي اغتيال الوزيرين مروان حمادة والياس المر. والسؤال اليوم موجه إلى السلطات الأمنية اللبنانية، هل سوف تقدم على اعتقال المجرمين مرعي وعنيسي انفاذاً لقرار المحكمة الدولية ما يسهّل متابعة التحقيق في قضايا الاغتيالات السياسية، وملاحقة الجهة التي تقف وراء القتلة لوضع حد لسياسة الإفلات من العقاب وإعادة الاعتبار لدولة القانون والمؤسسات، أم أن الشعب اللبناني سيبقى رهينة حكم شريعة الغاب؟

للقتلة ومن أمرهم بهذا الفعل الشنيع، أقول: إن لجوءكم إلى مواجهة العقل بالرصاص والإلغاء الجسدي، هو فعل لا يقوم به إلا الجهلة والجبناء. العقل المولد للأفكار لا يموت بموت جسد صاحبه. جورج حاوي وعلى مدى عقود من الزمن أسس مدرسة في الممارسة السياسة الوطنية والقومية التقدمية، والأممية الإنسانية، ما جعله يتميز بفكره النير ونهجه الذي زاوج بين الديالكتيك والبرغماتية، فتحول من قائد حزبي إلى قائد وطني احتل مكانة مرموقة في وطنه لبنان، وفي دوائر القرار وفي أوساط النخب الثقافية على المستويين العربي والدولي.

ماذا علّمنا الشهيد جورج حاوي؟

علمنا التفاني من أجل الوطن وحريته وسيادته واستقلاله، فكان المبادر إلى جانب رفيقه محسن ابراهيم إلى إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 أيلول عام 1982، ومن ثم رعايتها، إلى أن كُفت يده من قبل نظام الوصاية السورية في العام 1989. وكانت جبهة المقاومة في تلك الفترة قد دحرت قوات العدو الصهيوني إلى داخل ما سمي بالشريط الحدودي. وعلى أثر ذلك حذّر جورج حاوي من يعنيهم الأمر، من مخاطر تطييف المقاومة وتوظيف دورها في المحاور الإقليمية، خشية أن تفقد دورها المقاوم وتتحول إلى عامل انقسام وطني بعدما كانت رمزاً للوحدة الوطنية، وهو ما انتهت إليه للأسف اليوم فعلاً.

علّمنا الجرأة في نقد الذات قبل انتقاد الآخر، فكان جريئاً في نقد تجربة حزبه في الحرب الأهلية العبثية المشؤومة، ولم يتأخر منذ العام 1983 عن الإعلان بأن الحزب الشيوعي الذي قاده في تلك الحقبة مع شركائه في الحركة الوطنية، قد حمّل لبنان وحده، من أجل القضية الفلسطينية، ما لم يكن قادراً على تحمّله. ثم ذهب إلى الإقرار منتقداً تلك التجربة في حوار له مع جريدة النهار في العام 2003 بخطأ تقدير الحزب والحركة الوطنية، أنه بالإمكان الاستفادة من الزخم الفلسطيني أحياناً ومن الدعم السوري أحياناً أخرى، لتحقيق التغيير المرجو في الداخل.

علّمنا أهمية الانفتاح على الآخر المختلف، لذلك اعتبر بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، أنه لا بد من ترجمة هذا الاتفاق بمصالحة وطنية شاملة، والانتقال من الصراع العسكري البغيض بين الأخصام، إلى التنافس السياسي في إطار الديموقراطية، والاعتراف المتبادل بحق الاختلاف. من هذه الخلفية بادر جورج حاوي في 9 كانون الأول العام 1990 بالدعوة إلى لقاء انطلياس متجاوزاً تقسيمات الحرب بين شرقية وغربية. هذا اللقاء الذي دعا إليه جميع القوى يميناً ويساراً، حضره حزب الكتائب الذي كان رأس الحربة في الفريق الآخر. وحصل هذا اللقاء الذي أقيم على شرف السفير السوفياتي آنذاك، رغم رفض حلفاء الحزب الشيوعي في الحرب، وحتى رغم المعارضة داخل الحزب بالذات. وبعد لقاء فوار انطلياس زار جورج حاوي بلدة غدراس والتقى قائد القوات اللبنانية سمير جعجع.

وتجلت ذروة الانفتاح الفكري لدى جورج حاوي برؤيته للماركسية وتعامله معها بصفتها منهجاً ومرشداً للعمل ليس إلا. بهذه الرؤية الاستقلالية عن المركز الأم في موسكو خاض جورج المعارك داخل الحزب وخارجه، ضد الجمود العقائدي. وبهذه الرؤية وجه نقده للتجربة السوفياتية وما تسببت به من تشويهات، أدت إلى انهيارات عميقة في الحركتين الشيوعية والاشتراكية في العالم. وبرؤيته هذه، كان جورج حاوي حاسم الإدانة لتغييب الديموقراطية ومصادرتها في التجربة السوفياتية وفي الأحزاب الشيوعية والاحزاب الشمولية. ذاك الانفتاح الفكري، وتلك الرؤية النقدية للفكر السائد، دفعا جورج حاوي العام 1992 في المؤتمر السادس للحزب لقيادة عملية إصلاح فكرية، برنامجية، سياسية وتنظيمية بما في ذلك تغيير إسم الحزب والعودة إلى إسمه الأصلي» حزب الشعب». غير أن عملية الإصلاح فشلت، فقدم استقالته من الأمانة العامة في المؤتمر السابع الذي عقد العام 1993، وهو كان ما زال في عز عطائه، لكنه آثر الاستقالة على البقاء أميناً عاماً، انسجاماً مع قناعاته وتطلعاته.

أكتفي بهذا القدر، لأن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك في تعداد مزايا جورج حاوي الفكرية والسياسية والأخلاقية. وإلى رفعة جورج حاوي الفكرية وليس النضالية والسياسية فقط، تجدر الإشارة إلى أنه، في أيار عام 1976، قال له كمال جنبلاط «ان المشكلة عندنا نحن العرب أن الثورة العقلية لم تقم بعد»، من كتاب ايغور تيموفايف (كمال جنبلاط - الرجل والأسطورة). من هذا القول نفهم، أن القائدين الشهيدين كانا مهمومين بانجاز ثورة العقل في مجتمعنا اللبناني والعربي، ونستنتج من ذلك لماذا توجهت سهام انظمة الاستبداد والقوى الظلامية للنيل منهما ومن كل من كان دأبه النضال من أجل تغذية ثورة العقل، فاغتالوا كمال حنبلاط وجورج حاوي وحسين مروة وحسن حمدان والشيخ حسن خالد والشيخ صبحي الصالح، وسمير قصير، وجبران تويني ولقمان سليم، وغيّبوا الإمام موسى الصدر…وقضوا على كل من اعتبروه معيقاً لمشروعهم الاستبدادي - الظلامي، فاغتالوا على هذا الطريق رفيق الحريري ورفاقه.

الرفيق الشهيد القائد جورج حاوي، بعد سبعة عشر عاماً على اغتيالك واسكات صوتك، بكل ثقة أقول، إن قضية بناء الدولة المدنية الديمقراطية السيدة الحرة والعادلة التي بذلت حياتك من أجلها، قد نجحت ثورة 17ت في إطلاق عجلة التغيير نحوها بوصول كتلة نيابية وازنة إلى الندوة البرلمانية، وأن ثورة العقل التي طمحت لإنجازها مع القائد كمال جنبلاط سوف تنمو وتكبر مع جيل هذه الثورة الذي أثبت تمسكه بخيار دولة المواطنة ونبذ العصبيات الطائفية والمذهبية. وإننا بتنا اليوم نتنشق بعضاً من عبق الديمقراطية في إدارة المؤسسات بعدما تمكنت كتلة نواب قوى التغيير من فرض إيقاعها في أول جلسة للمجلس النيابي الجديد، ووقف تعليبها كما درجت عليه لعقود خلت قوى المنظومة الفاسدة.

رفيق جورج اشتقنا إليك، حضورك لا يعوّضه أي شيء. أنت باقٍ فكراً ونهجاً.


MISS 3