كشفت اجتماعاً سرّياً بين "فيلق القدس" و"الإخوان" للتحالف ضدّ السعودية

وثائق مسرّبة تفضح التدخل الإيراني في العراق

02 : 00

العراق يثور لإسقاط النظام الفاسد وتحريره من نفوذ إيران (أ ف ب)

ضجّت الساحات الإعلاميّة أمس، بأخبار عن وثائق مسرَّبة من أرشيف الاستخبارات الإيرانيّة، حصل عليها موقع "ذا إنترسبت" ونشرها بالتعاون مع صحيفة "نيويورك تايمز"، كشفت أسرار طهران في تعاملها مع دول المنطقة، وأساليبها الملتوية، ومقارباتها التوسعية. وفضحت الوثائق كواليس "لقاء سرّي" استضافته تركيا وجمع "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني مع جماعة "الإخوان المسلمين"، للتحاف ضدّ "عدوّهم المشترك"، السعوديّة، كما فضحت حقائق عن دور إيران الخفي بالتدخل في شؤون جارتها العراق بلمسات مباشرة من قائد "فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني، وحروبها السرّية هناك، هذا فضلاً عن تجسّسها على تنظيم "داعش" الإرهابي في عقر داره. وكشفت الوثائق المكوّنة من 700 صفحة كتبها ضبّاط أمن واستخبارات إيرانيّون بين 2014 و2015، أن مسؤولين في "فيلق القدس" التقوا أعضاء من جماعة "الإخوان المسلمين" في أحد فنادق تركيا، من أجل هدف مشترك، هو السعوديّة. وأتى "اللقاء السرّي" في لحظة حرجة لكلا الطرفَيْن، وتحديداً في نيسان 2014، حين كان العراق يُواجه "داعش"، فيما كانت جماعة "الإخوان المسلمين" تُعاني بعد إزاحة الجيش المصري حكومتها والرئيس المحسوب عليها محمد مرسي في 3 تموز 2013. لكنّ ما لم يعرفه الطرفان، أن جاسوساً كان يحضر القمّة، ويُسجّل كلّ ما يدور فيها، وهو ممثل وزارة الداخليّة الإيرانيّة، التي يزعجها دور "الحرس الثوري" ومكانته في جهاز الأمن القومي الإيراني.

وبحسب الوثائق، أقرّ وفد الإخوان خلال الاجتماع، بوجود خلافات بين جماعته كممثل للعالم السنّي، وإيران كرمز وممثل عن الشيعة، لكنّه جزم بوجوب "التركيز على أرضيّة مشتركة للتعاون"، خصوصاً أن "العدوّ المشترك هو الكراهية للمملكة العربيّة السعوديّة". وبحث الطرفان إمكان التعاون في اليمن بين الحوثيين و"الإخوان"، لتقليل الصراع بينهما وإدارته في اتجاه السعوديّة، فيما أراد "الإخوان" إحلال السلام في العراق، ووقف الحرب بين الفصائل السنّية والشيعيّة هناك، وإعطاء فرصة للسنّة للمشاركة في الحكومة. وعن سوريا، أشارت الجماعة إلى أن الوضع المعقّد "خارج سيطرة كلّ من إيران والإخوان حاليّاً، لذا لا يُمكن فعل شيء". أمّا عن الأحداث في مصر، فرفضت "أيّ مساعدة من طهران للتأثير ضدّ الحكومة" هناك. وشعر قادة الإخوان خلال الاجتماع بأنّ الإيرانيين غير مهتمّين بتشكيل تحالف شيعي – سنّي، وبدا واضحاً فشل المحادثات، ولم يتّضح من الأرشيف المسرَّب ما إذا عُقِدَت اجتماعات أخرى من هذا النوع.

وكشفت تلك الوثائق أيضاً، حقائق عن الدور الخفي لإيران في العراق وتعزيز نفوذها والسيطرة على مفاصل الحكم في الدولة الجارة، من خلال تجنيد جواسيس، إضافةً إلى الدور الفريد لسليماني في توجيه القرارات التي تُتّخذ هناك، وهو ما تجلّى أخيراً بزيارته الخفيّة لبغداد في منتصف تشرين الأوّل، من أجل تثبيت حكومة عادل عبد المهدي المأزومة، ووضع خطط لقمع الثورة الشعبيّة التي تُهدّد نفوذ طهران في العراق. وأثبتت الوثائق أن دور سليماني أكبر من ترتيب تحالفات بين القوى السياسيّة، إذ استطاعت طهران بناء شبكة جواسيس وعملاء زُرعوا في مؤسّسات سياسيّة واقتصاديّة، وحتّى دينيّة، مهمّة.

ونقلت إحدى البرقيّات أن عبد المهدي، الذي كان يعمل مع إيران عن كثب من منفاه في حقبة الرئيس المخلوع صدام حسين، كانت له علاقة خاصة مع طهران، خصوصاً عندما كان وزيراً للنفط في العراق في 2014. وكان أحد كبار المسؤولين الأميركيين السابقين قد حذّر من أن العلاقة الخاصة مع إيران تعني أموراً كثيرة، لكن لا تعني أنّه عميل للحكومة الإيرانيّة. وفي الوقت ذاته، لا يُمكن لأيّ سياسي في العراق أن يُصبح رئيساً للوزراء بلا مباركة إيران، ولهذا كان يُنظر إلى عبد المهدي عندما تمّ ترشيحه العام 2018، أنّه مرشّح توافقي بين إيران والولايات المتحدة.

وأظهرت البرقيّات أن "الحرس الثوري"، وتحديداً الفرقة التي يتزعّمها سليماني، هي التي تُشرف على وضع سياسات إيران في العراق وسوريا ولبنان. وتعيين السفراء في هذه الدول عادةً لا يحصل عبر السلك الديبلوماسي كما هو متعارف عليه عالميّاً، بل عبر الرتب العليا في "الحرس الثوري". وأشارت الوثائق إلى أن "زراعة" المسؤولين العراقيين الموالين لإيران كانت أمراً مهمّاً، وما سهّلها إقامة التحالفات مع العديد من القادة الذين كانوا ينتمون إلى جماعات معارضة للرئيس المخلوع صدام حسين.

توازياً، قدّمت الوثائق السرّية لمحة من داخل النظام الإيراني عن كيفيّة فرض الهيمنة بشكل تدريجي على العراق بعد العام 2003، مشيرةً إلى أن إيران تفوّقت على الولايات المتّحدة في بسط نفوذها هناك، ففي الوقت الذي كانت تتصارع فيه واشنطن مع الفصائل المختلفة لدعم استقرار العراق، عملت طهران على تثبيت أذرعها ونفوذها لتفرض تحدّيات جديدة داخل البلاد. وكشفت أيضاً أن طهران استفادت من الفرص التي منحتها إيّاها الولايات المتّحدة في العراق، وعلى سبيل المثال، استحوذت على شبكة العملاء والمخبرين الذين كانوا يتبعون لوكالة الاستخبارات الأميركيّة "سي آي إيه"، والتي استغنت عنهم واشنطن بعد انسحابها من العراق العام 2011، ليُخبروا الإيرانيين بكلّ ما يعرفونه عن عمليّاتها في البلاد، إذ إن الولايات المتّحدة لم تنتبه إلى أنّها تخلّت عن مخبرين في بلد يُعاني اقتصاديّاً وهم يحتاجون الحماية والمال.وأحد هؤلاء المخبرين العراقيين الذي كان يعمل لمصلحة "سي آي إيه" لقبه "دوني براسكو"، أصبح بعد ذلك يعمل مع الاستخبارات الإيرانيّة بلقب "المصدر 134992". وأخبر هذا المصدر الإيرانيين بكلّ المعلومات التي يعرفها عن الاستخبارات الأميركيّة في العراق: مواقع البيوت الآمنة، أسماء الفنادق التي يُقابل فيها العملاء، تفاصيل الأسلحة والتدريب الذي تلقّاه، أسماء العراقيين الآخرين الذين يعملون معه كجواسيس، وكان يتقاضى نحو 3000 دولار شهريّاً للفترة التي عمل فيها مع الـ"سي آي إيه" وهي مدّة 18 شهراً، إضافةً إلى مكافأة صُرفت له مرّة واحدة، وهي 20 ألف دولار وسيّارة.وفي برقية غير مؤرّخة، بدأت الاستخبارات الإيرانيّة عمليّة تجنيد مخبر داخل وزارة الخارجيّة الأميركيّة، لكن الوثيقة لم تُظهر إذا نجحت في مساعيها أم لا، فيما تُشير إلى أنّها بدأت اللقاء مع المصدر المحتمل من دون ذكر اسمه وعرضت عليه مكافآت ماليّة وذهباً وهدايا أخرى، ووجدت أنّه شخص قادر على تقديم رؤى استخباراتيّة حيال خطط الولايات المتّحدة في العراق، وحتّى بالتعامل مع تنظيم "داعش".

وفي برقية أخرى، يقول ضابط استخبارات عراقي لنظيره الإيراني إنّه مستعدّ للتجسّس لمصلحة إيران، خصوصاً في ما يتعلّق بالأنشطة الأميركيّة في البلاد، ويؤكّد لهم أن "إيران هي بلدي الثاني"، كما صرّح لهم بأنّه أتى برسالة من رئيسه في بغداد اللواء حاتم المكصوصي، قائد الاستخبارات العسكريّة في وزارة الدفاع العراقيّة، تقول: "أخبرهم أنّنا في خدمتك وكلّ ما تحتاجه تحت تصرّفك، نحن شيعة ولدينا عدوّ مشترك". كما عرض الضابط على نظيره الإيراني وضع أي معلومات استخبارات من الجيش العراقي تحت تصرّفه، إضافةً إلى أنّه عرض إعطاءه "برنامج الاستهداف السرّي"، الذي قدّمته الولايات المتّحدة للعراقيين.

وكشفت بعض الوثائق أيضاً المهمّة الأساسيّة للجواسيس، التي تتضمّن منع العراق من الانهيار، ومنع وجود مسلّحين من الطائفة السنّية على الحدود الإيرانيّة، وعدم إثارة حرب طائفيّة تجعل من الطائفة الشيعيّة أهدافاً للعنف، ومنع خروج كردستان من تحت مظلّة العراق بما يُهدّد أمن إيران وسلامتها. كما سعى "الحرس الثوري" واللواء سليماني من أجل القضاء على تنظيم "داعش"، ولكن مع مراعاة إبقاء ولاء العراق كدولة تابعة لإيران، والتأكّد من بقاء الفصائل السياسيّة الموالية لطهران في السلطة.وتمكّنت إيران من استغلال صعود "داعش" من أجل توسيع الفجوة بين إدارة الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما والطبقة السياسيّة في العراق، إذ كان أوباما قد دفع في اتجاه إطاحة رئيس الوزراء في حينها نوري المالكي وربطه كشرط لتجديد الدعم العسكري الأميركي. وذهب التقرير إلى أن المالكي، الذي عاش في منفاه في إيران في الثمانينات، أكثر تفضيلاً عند طهران من بديله حيدر العبادي، الذي تلقّى تعليمه في بريطانيا، ما دعا سفير إيران في تلك الفترة حسن دانييفار إلى عقد اجتماع سرّي لكبار الموظّفين في السفارة، وعلى الرغم من التحفظات على العبادي، إلّا أنّهم وجدوا أن وزراء كثراً موالون له بشكل كبير. وفي أواخر 2014، أدرجت برقية إبراهيم الجعفري، الذي كان رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجيّة، على أنّه يتمتّع بـ"علاقة خاصة" مع إيران، تُشبه العلاقة التي تجمعهم بعبد المهدي.

وأفادت الوثائق بأنّ وزير النقل العراقي، وبتنسيق مع سليماني، عمد إلى إبقاء الأجواء العراقيّة مفتوحة للطيران الإيراني، والذي استخدم في إيصال أسلحة وذخائر إلى داخل الأراضي السوريّة، من أجل دعم القوّات الموالية لإيران الموجودة هناك. وذهب التحقيق إلى أنّه ربّما كانت إيران قد خسرت أمام الولايات المتّحدة في السيطرة على بغداد في مراحل معيّنة، لكنّها استطاعت كسب تأييد العديد من المناطق الجنوبيّة الشيعيّة، وما صعودها كلاعب قوي في العراق إلّا إحدى نتائج سياسة واشنطن، التي لم تكن لديها خطة واضحة بعد إسقاط نظام صدام حسين.ويبدو أن تأجيج الحرب الطائفيّة السنيّة – الشيعيّة عادت بالنفع على إيران، والتي وجدها عراقيّون "حامية" لهم من "خطر السنّة" وتنظيم "داعش"، ناهيك عن فشل الولايات المتّحدة في فرض الأمن والحماية في البلاد، ما جعل الفرصة مؤاتية للحرس الثوري لتجنيد الميليشيات الموالية له.

كذلك، كشفت الوثائق أنّه في الوقت الذي كان العراق في أوج حربه ضدّ "داعش"، كانت إيران تعمل بشكل سرّي للتجسّس على التنظيم، خصوصاً في ظلّ "إحباطها" من عدم إشراك الولايات المتّحدة لها، سواء في الجهود المسلّحة ضدّه أو في اجتماعات المنطقة التي تحضرها دول عربيّة وأجنبيّة. وبيّنت الوثائق أن الاستخبارات الإيرانيّة استطاعت كسب مسؤول كبير في الاستخبارات العراقيّة لتزويدها بمعلومات وتقارير يوميّة عن "داعش"، كما تمكّنت من اختراق التنظيم على أعلى المستويات، ومعرفة ما يدور في اجتماع ترأسه أبو بكر البغدادي. إذ بحسب التقرير، كان "داعش" يعتزم الهجوم على الجيش العراقي والميليشيات الشيعيّة في الأشهر الأولى من 2015، ولكنّ قادته كانوا يخشون أن يولّد هذا الهجوم تحالفاً بين الولايات المتّحدة وإيران.

وراقب الإيرانيّون ما يحدث في العراق عن كثب، وأكثر ما كان يشغلهم هو أن تستطيع الطائفة السنّية تنظيم نفسها، بحيث حضر جاسوس إيراني اجتماعات في فندق "الشيراتون" في أيلول 2014، ضمّت عضواً سابقاً في حزب البعث يعيش في الولايات المتحدة، وكان يحمل رسالة مفادها أن واشنطن ستدعم الاستقلال السياسي للمنطقة السنّية بعد انتهاء القتال، وهو ما رأت إيران فيه تهديداً لها.

وفي أوّل ردّ عراقي على هذه الوثائق، أعرب رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي عن "قلقه من محاولات دول بعينها تدّعي أنها جارة وصديقة، أن تتجاوز أجهزتها الاستخباراتيّة على السيادة العراقيّة، أو أن تجعل قضايا العراق الوطنيّة جزءاً من حرب الأجندات والمصالح"، في إشارة إلى إيران. وطلب "توضيحاً وموقفاً من هذه الدولة حيال هذه الادّعاءات". ونفى العبادي في بيان، صحة معلومات وردت في التقرير تتعلّق به، مدافعاً عن "وطنيّته وعصاميّته"، ومستغرباً أن "هذه التقارير المسرّبة تحسب العبادي على أميركا أو بريطانيا أو إيران، وهي شهادة بأنّه لا ينتمي إلّا إلى العراق". وشكّك البيان بتقرير "نيويورك تايمز"، قائلاً إن "الوثائق المسرّبة يبدو أنّها موجّهة بعناية لأجل الإساءة في حرب الأجندات بين الدول".

MISS 3