عيسى مخلوف

كتابات تستحق النشر لعيسى مخلوف

ما ليس في مقدور الأرض أن تحتمله

6 آب 2022

02 : 00

لوحة للفنّان التشكيلي اللبناني شوقي يوسف

صادف يوم الخميس الماضي الواقع في الثامن والعشرين من شهر تمّوز، "يومَ تَجاوُزِ قدرات الأرض" لهذا العام عندما استنفدَت البشريّة الموارد التي يستطيع هذا الكوكب أن يوفّرها في غضون سنة واحدة، أي أنّ الأرض استهلكت كلّ ما يمكن تجديده من موارد طبيعيّة قبل حلول نهاية السنة، وفي الأيام المتبقّية منها ستمتدّ اليد إلى احتياطيات الماء والتربة والغابات وتخزين الكربون، ولن يعود بإمكان الأرض أن تمتصّ ثاني أُكسيد الكربون المنبعث من الوقود الأحفوري، ما يجعل الأنظمة البيئيّة بأكملها تتأثّر بهذا التغيير الحاصل.

هذا يعني أيضاً أنّ الأرض لم تعد تكفي البشر لتأمين استمرار دورة الاقتصاد وسدّ الحاجات الضروريّة للعيش. وإذا كانت الأسباب المعلنة هي زيادة نسبة الاستهلاك والكوارث الطبيعيّة والاستخدام المفرط للموادّ الخامّ، فإنّ العامل الأخير الذي يلجأ إلى تكنولوجيا متطوّرة تُسَهِّل، أكثر فأكثر، استغلال الطبيعة والبشر على السواء، هو عاملٌ حاسم. يزداد الوضع سوءاً مع استمرار الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على العالم أجمع، وكذلك مع النموّ السكّاني (سيبلغ عدد سكّان الأرض في شهر تشرين الثاني المقبل، بحسب الأمم المتحدة، ثمانية مليارات نسمة).

نعم، إنّ طريقة التعامل مع الموارد الطبيعيّة تعكس تسابقاً في تدمير الأرض، وتدمير الأرض يبدو للبعض أقلّ كلفة وأكثر ربحاً من الحفاظ عليها. وما يحصل الآن ليس الهدف منه التوصّل إلى إلغاء المجاعة في العالم، ولو إلى حين، وإنّما المزيد من الجشع والاستئثار والربح، وفرض هيمنة الشركات والمؤسّسات والقوى التجارية والدول التي تمتلك قدرات هائلة في الاستغلال والتسويق.

مع ذلك، يقول العلماء إنّ إنقاذ الأرض، وإن تأخّر، ما زال ممكناً، وبالإمكان أيضاً تأخير الوصول إلى نقطة اللاعودة. من الحلول التي يقترحونها: الخَفْض من تبذير الطعام، والحدّ من استهلاك اللحوم وجعله نصف ما هو عليه اليوم، من أجل أن ينخفض مستوى التلوّث البيئي على مستوى العالم ككلّ. في العام 2012، نُشرت دراسة ورد فيها أنّ العالم إذا أراد أن يستهلك كما الحال في الولايات المتحدة فسيحتاج إلى أربعة كواكب إضافيّة على الأقلّ. لكن، من الذي سيعمل على وضع سياسة جديدة لإدارة شؤون الكوكب وتصحيح مساره؟ دول العالم مشغولة الآن بمضاعفة ميزانيّات التسلّح والاستعداد لمزيد من المواجهات والحروب، وكلّ دولة، وخصوصاً ما يسمّى الدول الصناعيّة العظمى، تضع مصالحها الخاصّة فوق أيّ اعتبار آخر. في افتتاح مؤتمر الدول الـ 191 الموقّعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النوويّة، عبّر الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن خوفه من الذهاب نحو حرب إبادة، وحذّر من انتشار الأسلحة النوويّة ومن خطر استعمالها، ومن البقاء في مناخ شديد التوتّر لم يعرفه العالم منذ الحرب الباردة.

في موازاة استغلال الأرض ومواردها، هناك استغلال منظّم للبشر وطاقاتهم وجهودهم، وهو استغلال عرفته البشرية منذ أقدم العصور وصولاً إلى أيّامنا هذه. تدير هذا الاستغلال اليوم قوى متنوّعة يتمثّل بعضها في شبكات تجارية جديدة (من حيث طبيعتها وتكوينها) وفي عشرات "المصنِّعين" الافتراضيين. يلاحظ الباحث الأميركي في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد جيريمي ريفكين، في كتابه "عصر الوصول/ الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة"، أنّ شركة "نايك" الأميركيّة، وهي الأكبر عالميّاً لتصنيع الملابس والأحذية والأدوات الرياضية (توجد مواقع التصنيع في أماكن عدّة لا سيّما في جنوب شرق آسيا)، قد تكون المثال الأبرز لهذه القوى التجاريّة الصاعدة، وترتبط بممارسات غير عادلة في تعاملها مع مئات ألوف العمّال الذين تُباع جهودهم بأبخس الأثمان، وفي بعض هذه المصانع، كما يروي ريفكين في كتابه، "كانت فتيات لا تتجاوز أعمارهنّ 13 سنة، يعملنَ أكثر من ستّين ساعة في الأسبوع ومنهنّ من تعرَّض لتحرّشات جنسيّة". هذا مثال واحد ينطبق على عدد لا يحصى من الشركات العالميّة العابرة للقارّات.

الإنسان، ابنُ الأرض، هو ما يفوق طاقة الأرض على احتماله!


MISS 3