توفيق شمبور

الإصلاحات (نعم !)... الهرج والمرج والفوضى (لا!)

الأوليغارشية السياسية - المالية تتمسّك بخطوط دفاعاتها وحصاناتها وميزاتها... حتى الرمق الأخير

8 آب 2022

02 : 00

يعملون على تكييف الاصلاحات المطلوبة من دون اعتماد الجذرية

* لطالما كانت الإصلاحات عبارة عن اعلانات دعائية الهدف منها الحصول على قروض ومساعدات

* أقرت في مؤتمرات باريس تدابير تناقض المبادئ والتوجهات العالمية في اعتماد الحوكمة السليمة

* إجراء شطب الديون «المقيتة» أمر جائز إذا أتى من حكومة نزيهة... فهل حكومة نجيب ميقاتي نزيهة؟

* في تعديل السرية المصرفية أعادوا الكلام عن صلاحيات «مراقبين» لمصرف لبنان... إنقلاب تشريعي واضح؟

* رفع "السرية" حق ضروري لكل المراجع القضائية المختصة لغايات الاستقصاء والتحقيق والمحاكمة على السواء

* جمعية مصارف لبنان تريد عفواً عاماً عن مجمل الجرائم التي يصعب إثباتها بغياب الكشف عنها

* صندوق النقد طلب تصريحاً علنياً لملكيات ومصالح المسؤولين وعائلاتهم ومعاونيهم... أين هي العلانية؟

* للتثبت من نزاهة القيمين على الخدمة العامة اعتمد لبنان توجهات أقل تقييداً من الآخرين في الدول المتقدمة


المراقب المتابع للمسار المالي للدولة اللبنانية منذ عام 1993، لا بد ان تستوقفه محطات مفصلية عديدة اطلق المسؤولون فيها وعوداً اصلاحية متنوعة، لم يعتمد منها الا القليل وغالباً بصورة مموهة. والهدف الاساس كان تحسين صورة السلطة امام الخارج رغبة في الحصول على التمويل الذي تحتاجه من الدول الشقيقة والصديقة وايضاً من المؤسسات والاسواق المالية الدولية. فكانت الاصلاحات «اما اعلانات دعائية.... او اخطاء وخطايا برسم المستقبل»، استئناساً بقول مأثور عن مستشار الرئيس الاميركي Eisenhower العضو الاسبق لمجلس ادارة حاكمية المصرف المركزي الاميركي الـ FED واستاذ الاقتصاد في جامعة Yale البروفسور Henry Wallich، وقد قال فيه ان «الاصلاح هو على العموم اخطاء المستقبل».

تدابير مؤتمرات باريس... تركت ثغرات كثيرة

من اوائل واهم المحطات المالية كانت مؤتمرات باريس 1 و2 و3 التي انعقدت تحت شعار دعم لبنان للمساعدة في تغطية التكلفة العالية التي تطلبتها عملية اعادة الاعمار، وعدد من المشاريع الضرورية لتحضير لبنان للمنافسة في قطف ثمار عملية السلام التي كان يخطط لها آنذاك على حد قول المسؤولين في هذه الحقبة.

في مؤتمرات باريس اطلقت السلطة اللبنانية العديد من التدابير والتعهدات والوعود الاصلاحية، لتدفع الدول والمؤسسات المانحة على اغداق مساعداتها لها. واغلب هذه التدابير والتعهدات غير معمول بها في الدول المشاركة في هذه المؤامرات وتخالف لا بل تتناقض احياناً مع مبادئ وتوجهات عالمية في الحوكمة السليمة.

من التدابير المعلنة شطب نحو 3.3 مليارات دولار من ديون مصرف لبنان على الخزينة. وذلك باعادة تقييم التغطية الذهبية. واستعمال الربح المحقق في عملية الشطب. تدبير سبق ان عارضه بشدة الحاكم ادمون نعيم قبل مؤتمر باريس 1 بسنوات قليلة. على اساس ان الربح هو دفتري وليس حقيقياً، وذلك عندما طالبه به الرئيس كميل شمعون وكان الاخير آنذاك وزيراً للمالية. والغريب ان المستشار الألماني السيد Gerhard Schröder كان حاضراً اثناء نقاش الموضوع في مؤتمر باريس ولم يعلق على الامر. علماً ان حواراً عاماً مماثلاً سبق ان اثير في بلاده ايام سلفه السيد Helmut Kohl قبل ثلاث سنوات عام 1997 مع الحاكم Hans Tietmeyer. وكان راي الاخير جازماً بعدم قبول استعمال الربح الدفتري المتأتي من اعادة تقييم المخزون الذهبي للـ BundesBank في تخفيض عجز الموازنة الالمانية واخذ بالنهاية برأي الحاكم Tietmeyer.

ايضاً اخذ مؤتمر باريس 2 علماً بتوجه لدى مصرف لبنان بمطالبة المصارف باجراء توظيفات الزامية بالعملات الاجنبية لديه بنسبة معينة من ودائعها من هذه العملات. ومعروف كيف انتهى التوجه المحكي عنه بنتائج وخيمة على المصارف ومودعيها على السواء. عندما كاتب مصرف لبنان جمعية المصارف مؤخراً يعلمها فيه بانه سيرد قيمة التوظيفات والالتزامات الاخرى بالعملات الاجنبية بذمته لصالحها بالليرة اللبنانية بتصرف غير قانوني وغير مهني، سبق له ان اعلن مثيلاً له في رد المصارف للودائع الاجنبية الى اصحابها.

التوجه الآنف الذكر أتى من جملة سياق عام، عمل من خلاله مصرف لبنان على تجشيع واغراء المصارف بمعدلات فوائد مجزية لاسترجاع ودائعها لدى مراسليها في الخارج، واستخدامها للاكتتاب باصداراته واصدارات الخزينة بالعملات الاجنبية توصلاً لتأمين الموارد الكافية لتدخله في سوق القطع، كما تحقيق سياسته المعلنة بخصوص تأمين الاستقرار في التسليف للقطاع العام. بحيث بدا ان الامور قد انعكست في لبنان فباتت المصارف هي المقرض الاخير Last Resort للمصرف المركزي بالعملات الاجنبية من اموال مودعيها.

المنحى المذكور اعترض عليه صندوق النقد الدولي في عدد من تقاريره وحجته التي ركز عليها انه يكشف ويعرض المصارف لمخاطر الدين السيادي.

والواقع ان هذا المنحى يؤسس فضلاً عن ذلك لمخاطر مهنية اضافية للمصارف، اثبتتها ازمات مالية كبرى ونهى عنها قانون النقد والتسليف والانظمة الصادرة بالاستناد اليه اهمها: (1) خروج المصارف التجارية، عند تركيزها على الاكتتاب بالاصدارات العامة للخزينة ولمصرف لبنان عن وظيفتها الاقراضية المحددة في قانون النقد والتسليف لممارسة نشاط آخر هو نشاط مصارف الاستثمار بصورة راجحة. و(2) تجاوزها، اي المصارف، الاحكام النظامية المحددة للشروط وللسقوف العليا لاقراض عميل واحد. و(3) بالنسبة لمصرف لبنان، تم استعمال الاموال المتحصلة سنداً للمادة 76 نقد وتسليف كما تذكر تعاميمه في غايات غير تلك المعلنة عنواناً لهذه المادة اي «التأثير على السيولة المصرفية وحجم التسليف».

تبقى الخطورة الكبرى ان الاصدارات المكتتب بها من قبل المصارف صادرة عن دولة تعتبر بمؤسساتها «الفاسد الاكبر» بصريح توصيف رئيس مجلس نوابها لاكثر من ثلاثة عقود السيد نبيه بري. وعدد من التشريعات تخضع الاقراض للمبذر والمتعسر فكيف بالفاسد ؟

القانوني الدولي Alexander Nahum sack، المتخصص بالاشكالات المالية للدول التي تتعسر وتتوقف عن دفع ديونها، يرى ان القروض «المقيتة» او «الكريهة» odious debts التي تبرمها «الدول الفاسدة» يمكن تملص الاخيرة منها لاحقاً، وتحميل مسؤوليتها لمن ابرموا عقودها او اصدروا وروجوا لسندات القروض في ما لو تم اثبات «مقتها» و «كراهتها»: بعدم اطلاع وموافقة ممثلي الشعب عليها وانفاقها في مجالات من غير المؤكد انها للصالح العام ويقين المقرضين بالامر، على ان يصدر قرار عدم دفع هذه القروض او التوقف عن دفعها من حكومة نزيهة، تقطع التواصل مع مرحلة الفساد السابقة وحكوماته. ولا يجوز هنا الاعتداد بنظر البروفسور Sack باستمرارية الحكم فهذا الامر مرتبط بوجود استمرارية السيادة الوطنية.

ما يفسر، من وجهة نظر قانونية معينة، عدم امكانية الأخذ بالتوجه الذي قررته حكومة السيد نجيب ميقاتي وعبر عنه نائب رئيسها السيد سعادة الشامي لجهة شطب الديون العامة المترتبة لصالح المصارف، لان هذه الحكومة لا يمكن وصفها بمن تضم وبمن تمثل بانها النقيض الفعلي للحكومات السابقة للمنظومة، التي تدير منذ اتفاق الطائف بالتحاصص والتضامن «الدولة الفاسدة». وهذه الحكومات هي من قوضت ولا تزال سيادة الدولة لصالح جهتين خارجيتين، وبالتالي اسرفت في الاستقراض «المقيت « و»الكريه» حسب تعبير البروفسور Sack.

صندوق النقد الدولي والفساد في لبنان

تضمن بيان بعثة صندوق النقد الدولي عن تقريره للعام 2018 الخاص بالمادة 4 من قانون الصندوق فقرة خصصت للفساد في لبنان. هي الفقرة 25 وفيها دعت ادارة الصندوق (1) الى إقرار تشريع لحماية كاشفي الفساد، وهو امر نصت عليه المادة 33 من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي انضم اليها لبنان بمقتضى القانون 33 تاريخ 16 ت1 2008. و(2) الى زيادة فعالية قانون الإثراء غير المشروع بجعل نظام التصريح بالأصول علنياً لكبار المسؤولين وأعضاء أسرهم ومعاونيهم.

(1) كاشفو الفساد

بتاريخ 18 تشرين الاول 2018 صدر قانون حماية كاشفي الفساد. وتعرض فقط للفساد في القطاع العام بعكس اتفاقية الامم المتحدة التي تتناول ايضاً الفساد في القطاع الخاص. لكن من دون ان تورد تعريفاً عاماً لمفهوم الفساد بعكس ما فعل القانون اللبناني الذي ذكر بانه، اي الفساد، هو «استغلال الموظف والقائم بأي خدمة عامة، للسلطة أو للوظيفة أو للعمل، بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير متوجبة قانوناً».

وحسنا فعل القانون اللبناني بان منح الكاشف عن الفساد، وكما تشجع عليهما اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد، حماية فاعلة ومكافأة مادية شريطة ان يحصل الكشف امام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حصرياً. والمدة القصيرة الممتدة بعد صدور القانون ولتاريخه لا تظهر اثراً ملحوظاً في عدد الاعلانات عن حالات فساد. وقد فسر البعض ذلك بان صدور القانون لم يتصاحب بحملات في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي تركز على الربح المادي الذي يمكن ان يحققه من يكشف عن الفساد، خصوصاً في الظروف المالية الضاغطة، سيما ان القانون لا يعتبر القيام بكشف الفساد خرقاً لموجب السرية المهنية.

(2) الذمم المالية للمسؤولين

(لبنان) بتاريخ 16 تشرين الاول 2020 صدر قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع. وقد ذكرت اسبابه الموجبة ان صدوره هو لتصحيح قصور القوانين التي سبقته منذ عام 1953 وهي المرسوم الاشتراعي 38 لعام 1953 وقانون 1954 وقانون 154 لعام 1999.

إستبقى قانون 2020 فكرة تقديم الموظف والقائم بالخدمة العامة بمفهومها الواسع الذي يستغرق النشاط التشريعي والقضائي والتنفيذي والإداري والعسكري والأمني والمالي وحتى الاستشاري، باستثناء موظفي وأفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية والمدارس والمعاهد الرسمية، تصاريح دورية عن جميع عناصر الذمم المالية التي يملكها او يتملكها هو وزوجته وأولاده القاصرون في الداخل والخارج عند مباشرة العمل واثنائه وعند انتهاء خدماته. وتودع التصاريح لدى المراجع المختصة وتحكمها السرية المصرفية. وكل من يفشي سريتها يعاقب بالحبس و/أو بغرامة فضلاً عن إمكانية ملاحقته تأديبياً. ولا يعتد بهذه السرية بوجه الهيئة والقضاء المختص في إطار ملاحقة أو تحقيق أو محاكمة.

تمّ الترويج للقانون على ان صدوره سيكون اداة فاعلة في مكافحة الفساد السياسي والاداري في البلاد، من خلال تمكين المواطنين من تقديم الإخبارات والشكاوى الى هيئة مكافحة الفساد وحفظ حق المتضرر بمراجعة القضاء بتقييدات دنيا. لكن التباين في تفسير احكامه ظهر منذ التصويت عليه، فكان هناك رأي يقول انه لا يمكن التعويل عليه في محاسبة الفساد السياسي. فرئيس الجمهورية يتمتع بحصانة دستورية وفق المادة 60 من الدستور، كذلك الامر بالنسبة الى رئيس الوزراء والوزراء سنداً للمادة 70 والنواب سنداً للمادة 40.

وكان هناك رأي يقول بالعكس: ان القانون يسمح بملاحقة الوزراء ورئيسهم على اساس ان تجريم الإثراء غير المشروع بات حسب القانون خارجاً عن مفهوم الإخلال بالواجبات الدستورية واصبح خاضعاً لاختصاص القضاء العدلي بخلاف النواب الذين يتمتعون بحصانة مطلقة طوال انعقاد المجلس، كما رئيس الجمهورية الذي ينص الدستور ان لا تبعة عليه حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور وفي حالة الخيانة العظمى.

الآلية السابقة لقانون 2020 اثبتت عدم فعاليتها وجدواها بدليل عدم تسجيل سوى عدد محدود من الملاحقات القضائية استناداً اليها لا تتعدى اصابع اليد الواحدة طوال سبعة عقود. بالرغم من وفرة الاخبار والقصص المتداولة عن ارتكاب العديد من عمليات الفساد، وهو امر تحققت منه هيئات عالمية عدة معنية برصد الفساد، فادرجت لبنان من ضمن فئات الدول المتقدمة في تفشيه.

ومن غير المتوقع ايضاً ان تختلف الامور بعد صدور قانون عام2020 بسبب تمسك الاخير بمبدأ سرية التصاريح عن الذمم المالية للموظفين والقائمين بالخدمة عامة، وهو امر يتناقض مع المنحى المعتمد من قبل العديد من الدول المتقدمة التي ترى ان هذه التصاريح يجب ان تكون علنية ويكون للمواطنين متابعة تطوراتها باستمرار وفرنسا واحدة من هذه الدول.


(فرنسا)

يقدم القانون الفرنسي الخاص بشفافية الحياة العامة رقم 907 لعام 2013 اطاراً فعالاً ليس فقط في ملاحقة الفاسدين بل ايضاً في تمكين الفرنسيين من مواكبة تطور ثروات من عهدوا اليهم بمهام ادارة الشأن العام. وكان من المفيد ان يقتبس المشرع اللبناني من توجهاته.


إستناداً للقانون المذكور يتعين على كل عضو من أعضاء الحكومة الفرنسية ان يودع، في غضون شهرين من تعيينه، رئيس الهيئة العليا لشفافية الحياة العامة

La Haute Autorité pour la Transparence de la Vie Publique-HATVP

بياناً كاملاً ودقيقاً وصادقاً بجميع ممتلكاته التي تعود له افرادياً او بالشراكة مع الآخرين، وايضاً بالمصالح التي يحتفظ بها بتاريخ التعيين وخلال السنوات الخمس السابقة لذلك التاريخ. وبكل تعديل يطرأ عليهما لاحقاً كما الابلاع عن وضعية الممتلكات والمصالح في غضون شهرين من انتهاء المهام.


ترسل الـ HATVP البيانات التي تلقتها إلى مصلحة الضرائب لتقييم دقة وصدق بيان صافي الأصول، بما في ذلك ضريبة الدخل وغيرها... وتقوم المصلحة بالتدقيق ما اذا كان اصحاب البيانات قد ادوا الضرائب المتوجبة وايضاً بوجود اية عقوبات وغرامات وغيره عليهم.


لاحقاً تقوم الـ HATVP بإلاعلان للجمهور عن الوضع المالي وإعلان المصالح الخاصة مرفقاً بهما أي تقييم يمكن ان يكون مفيداً في ما يتعلق بالدقة والنزاهة، بعد أن يعطي الطرف المعني الفرصة للتعليق عليه.

ويجوز ايضاً للجمهور أن يبلغ الهيئة العليا بأية ملاحظات كتابية تتعلق بإعلانات حالة الملكية والمصالح الخاصة.


وتدار الأدوات المالية التي تعود لأعضاء الحكومة ورؤساء وأعضاء السلطات الإدارية المستقلة والسلطات العامة المستقلة العاملة في المجال الاقتصادي من قبل مؤتمنين fiduciaires، بشروط تمنع من أي حق بالتدقيق من جانب اصحاب الادوات fiduciants خلال فترة عملهم. ويمكن للمؤتمنين fiduciaires تبرير التدابير التي يتخذونها للـ HATVP.


هذا ويضم القانون الفرنسي احكاماً خاصة ترعى شفافية العلاقة بين ممثلي المصالح الخاصة وافراد السلطات العامة، حيث يقتضي ايضاً نشر بيانات خاصة عن هؤلاء الممثلين للجمهور.


وموجب الاعلان عن الذمة المالية امام الجمهور يسري ايضاً على رئيس الجمهورية اي رأس الهرم وما دون. وهو أمر التزم به جميع رؤساء الجمهورية الخامسة واكدته قوانين "اخلاقية النشاط العام" وقرارات عن المجلس الدستوري الفرنسي بصدد هذه القوانين، آخرها قراران صدرا مؤخراً في 8 ايلول2017.


ان من غير المقبول ان يكون بامكان اي لبناني مراجعة الذمة المالية والمصالح الخاصة العائدة لرئيس اجنبي كالرئيس الفرنسي الحالي السيد Emmanuel Macron على الموقع التالي على شبكة الانترنت

https://www.legifrance.gouv.fr/jorf/id/JORFTEXT000034674118

ولا يكون بامكانه اجراء مراجعة مماثلة للقيمين على الخدمة العامة في بلده.


جدير بالذكر ان فرنسا تنظم ايضاً بعدد من القوانين يفوق عددها الـ 25 الشفافية المالية للتجمعات والاحزاب السياسية. وتتناول هذ القوانين اصول وقنوات تمويل هذه الاخيرة واماكن ايداع اموالها واصول ادارتها وتثميرها ومسك الحسابات المالية ذات الصلة والجهة المعنية بتدقيق هذه الحسابات. وذلك ضمن اطار يضمن عدم استخدام المال في خلق توجهات انتخابية معينة تشوه خيارات الناخبين الحقيقية وبالتالي العملية الانتخابية ذاتها. هذا وتتضمن قوانين الشفافية المالية للتجمعات والاحزاب السياسية نصوصاً تعاقب ادارياً ومالياً وحتى بالحبس المتبرع الذي لا يتقيد بالاصول المنصوص عليها في تقديم الهبات او القروض وايضاً متلقي تبرعات الاخير على السواء...



تذكير بقول مأثور للجنرال ديغول

إن تناول المسؤولين اللبنانيين للاصلاح في بلادهم يذكر بقول للرئيس الفرنسي الاسبق الجنرال Charles de Gaulle ذكر فيه التالي:

La réforme oui. la chi-en-lit non !

فهم اختطوا في مجال الاصلاح الذي دفعوا اليه من قبل المجتمع الدولي نظير مساعدته لهم للخروج من عثراتهم، سبلاً جد ملتوية. فقد اعتمدوا لتأمين التمويل لانفاقات الدولة والحفاظ على الاستقرار النقدي توجهات مناقضة او حتى ممنوعة لدى الغير، وفي امور التثبت من نزاهة ومناقبية القيمين على الخدمة العامة اعتمدوا توجهات اقل تقييداً من الآخرين في الدول المتقدمة، بعكس الحال في ما خص التعديلات على السرية المصرفية التي دفعوا الى اجرائها، فقد عمدوا الى التشبث ولآخر لحظة بأكبر قدر ممكن من تلابيب هذه السرية للتمويه عن الانحرافات في عالم متغير، الانفتاح والشفافية، هما السمتان البارزتان اللتان تميزانه في الوقت الراهن.

أمر يعطي فكرة عن مدى صعوبة اجراء اصلاح حقيقي من قبل وعلى يد الاوليغارشية السياسية - المالية التي تقبض على زمام الامور في لبنان، وهي المتمسكة للرمق الاخير بخطوط دفاعاتها وحصاناتها وميزاتها.

ان فتح قنوات التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدته يمكن ان يؤسس لعملية انقاذية حقيقية، في حال استعان الصندوق بشخصيات عالمية مرموقة تواكب وتضبط على الارض العملية الاصلاحية التي يطالب بها الصندوق المسؤولين في لبنان للتأكد من حصولها وفقاً لمعايير الحكم الفاضل والادارتين المالية والنقدية الرشيدتين!


مطالبة صندوق النقد لبنان بتعديل احكام السرية المصرفية... ماذا حصل؟

الاتفاق المبدئي الذي حصل مؤخراً مع صندوق النقد الدولي على صعيد الموظفين في 8 نيسان المنصرم تتضمن عدة امور يقتضي اجراؤها قبل التوقيع على الاتفاق النهائي مع لبنان. من بينها ضرورة تعديل احكام قانون السرية المصرفية لجعلها موائمة مع المعايير الدولية لمكافحة وإزالة العوائق أمام هيكلة فعّالة للقطاع المصرفي والرقابة عليه، ولحسن إدارة الضرائب، والتحقيق في الجرائم المالية، واسترداد الأصول.

والحقيقة ان ما طلبه صندوق النقد من لبنان تطالب به ايضاً المادة 40 من اتفاقية مكافحة الفساد التي تنص على كفالة كل دولة طرف، في حال حصول تحقيقات جنائية داخلية في افعال مجرمة، وجود آليات مناسبة في نظامها القانوني لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قانون السرية المصرفية.

ايضاً اثير موضوع ضرورة تعديل السرية المصرفية من قبل عدد من الجهات المانحة آخرها عند الحديث عن مشروع Ceder، وتسارعت وتيرة الكلام في الموضوع بعد 17 تشرين الاول 2019 ورواج خطاب استرداد الأموال المنهوبة والتدقيق الجنائي.

الرجوع الى الظروف التاريخية لاعتماد السرية المصرفية في لبنان عام 1956 يظهر ان الغاية الراجحة في اذهان العموم كانت لجذب عوائد النفط المكتشف في المنطقة الى المصارف اللبنانية. وافضل تشريع يمكن الاقتباس منه في سن قانون عصري للسرية المصرفية هو القانون السويسري الاعرق تاريخياً. لكن المقارنة بين ما تم اعتماده بشأن السرية المصرفية في كل من سويسرا ولبنان يشير الى الصرامة المبالغ فيها التي اعتمدها الاخير.

فبالنسبة للسرية التي تحكم «عمل المصارف»، المبدأ في سويسرا انها تسقط وتهدر امام الاحكام القانونية الخاصة بواجب اعلام السلطة والشهادة امام القضاء التي تبقى نافذة ومعمولاً بها، بعكس ما تقرر في لبنان حيث تصمد هذه السرية امام السلطات العامة ادارية او عسكرية او قضائية ولا ترفع الا بحالات استثنائية محددة في القانون.

اما بالنسبة للسرية التي تحكم «عمل المصرف المركزي»، المبدأ في سويسرا انها تسقط امام (1) موجب الاعلان عن المخالفات الجرمية التي يكتشفها العامل في المصرف المركزي. و (2) عند استدعاء الاخير للشهادة امام القضاء بعكس ما هو الامر في لبنان حيث لا موجب على العامل لدى مصرف لبنان بالاعلان عن المخالفات التي يكتشفها وحيث تصمد السرية امام السلطات العامة ادارية او عسكرية او قضائية.

مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس النواب مؤخراً والمتضمن احكاماً خاصة بالسرية المصرفية وسع من دائرة المخولين طلب رفع السرية المصرفية على النحو التالي:

(1) السلطات القضائية في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم المالية

الاخرى بما فيه تلك المحددة في المادة الاولى من القانون 44 تاريخ 24 تشرين الاول 11-2015 (مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب)

(2) هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان

(3) الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد

(4) لجنة الرقابة على المصارف

(5) مصرف لبنان

(6) المؤسسة الوطنية لضمان الودائع

(7) السلطات الضريبية المختصة بادارة الايرادات

تحيل لجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع ومصرف لبنان الى «الهيئة المصرفية العليا» المصارف التي ترفض عمداً تقديم المعلومات المطلوبة عن الحساب المصرفي او الخزائن الحديدية لاتخاذ القرار المناسب خلال مهلة اسبوعين.

كما وسع مشروع القانون الذي تمت الموافقة عليه دائرة الاشخاص المخولين باعطاء الاذن بالقاء الحجز على الاموال والموجودات المودعة لدى المصارف، فأضاف اليهم هيئة التحقيق الخاصة والسلطة القضائية المختصة واي سلطة اخرى تناط بها هذه الصلاحية.

الاضافات السابقة تدفع للوهلة الاولى الى الاعتقاد بان المطلوب من قبل صندوق النقد قد تم تحقيقه على اكمل وجه.

بيد ان التدقيق في الامور يظهر وجود عدد من الانحرافات من اهمها التالي:

(1) خوف مبرر في حصر طلبات رفع السر المصرفي بدعاوى «التحقيق» كما يبدو من ظاهر النص. في حين انه كان من الافضل ان يكون الاخير واضحاً بامكانية رفع السرية المصرفية من قبل المراجع القضائية المختصة لغايات الاستقصاء والتحقيق والمحاكمة على السواء.

(2) إدراج «هيئة مكافحة الفساد» ضمن الهيئات التي يحق لها طلب رفع السرية المصرفية فيه نوع من المزايدة. كون الهيئة المذكورة لا تستطيع طلب المعلومات المصرفية مباشرة من دون المرور بـ»هيئة التحقيق الخاصة».

(3) إعادة تثبيت الدور المحوري للهيئة الاخيرة اي «هيئة التحقيق الخاصة» المنشأة لدى مصرف لبنان ويرأسها الحاكم شخصياً في طلبات رفع السرية المصرفية في جرائم تبييض الأموال دون سواها. بالرغم من ان التوجهات المعاصرة في الدول الحديثة تركز على حصر مهام المصرف المركزي باستقرار النقد والنشاطات اللصيقة بذلك كتنظيم وسائل وادوات الدفع و... وابعاده كلياً عن نشاطات التنظيم والاشراف والرقابة على المصارف. والامر الاخير اي الرقابة على المصارف اقره بشكل صريح القانون 28-67 الذي نقل جميع صلاحيات الرقابة التي كانت عائدة لمصرف لبنان الى لجنة الرقابة على المصارف بناء لاقتراح العميد ريمون اده، الذي اعلن بصوت عال تحت قبة البرلمان ان مصرف لبنان كان مخولاً برقابة المصارف، فلم يحسن هذه الرقابة وحصلت ازمة «انترا»، لذا يجب فصل هذه الرقابة من صلاحياته مستبقاً بذلك ما فعلته دول رائدة كالمانيا وسويسرا وبلجيكا وانكلترا واسبانيا وايطاليا وغيرها... والطريف ان مشروع قانون تعديلات السرية المصرفية اطاح بكل التوجهات المحكي عنها واعاد الكلام عن مراقبين من قبل مصرف لبنان بامكانهم كمراقبي لجنة الرقابة على المصارف توجيه طلبات رفع السرية المصرفية الى المصارف... انقلاب تشريعي واضح؟؟؟

(4) عدم الانتباه الى اهمية ضبط المخالفة منذ البداية، والاقتراح هنا تمكين المفوض بمراقبة المصرف من الاطلاع على جميع الحسابات والموجودات مع الالتزام بموجب كتم السر الملزم به عملاً بالمادة 190 نقد وتسليف، المعطوفة على قانون السرية المصرفية لعام 1956 ما خلا حالة وجود مخالفة للقانون. اذ يتعين عليه هنا اعلام المعنيين بالمصرف بالمخالفة التي وقع عليها اثناء اجرائه لعمليات المراقبة اضافة لحاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف كما يلزم، وفقاً للاقتراح، باعلام السلطة القضائية المختصة بالامر.

(5) أخيراً وليس آخراً خلو مشروع قانون تعديلات السرية المصرفية من اية اشارة الى اي تعديل خاص بالسرية المصرفية التي تغلف عمل مصرف لبنان، بالرغم من التجاذبات التي اثيرت بشأن هذه السرية واعاقت تكليف احدى المؤسسات الاجنبية التدقيق الجنائي في حساباته وعملياته، وهذا التدقيق كان من اول شروط صندوق النقد وقد سويت الامور بقانون مؤقت يقضي برفع هذه السرية لمدة محددة تقتضيها اعمال التدقيق الجنائي.

والحل الدائم المقترح في ما خص السرية التي تغلف عمل مصرف لبنان هو: (1) رفعها لصالح «مفوض الحكومة» في مراقبته لعمليات وحسابات مصرف لبنان على ان يلتزم بها في ما خص نتيجة اعمال المراقبة، ما خلا الحالات التي يقع فيها على مخالفة للقانون عندها يتعين عليه ابلاغ الامر الى المجلس المركزي بواسطة الحاكم والى وزير المالية. (2) تعديل قانون النقد والتسليف على نحو تقوم به الحكومة او مجلس النواب بتعيين مفوضي مراقبة لمصرف لبنان يقومان بهذه الرقابة، من دون الاعتداد بوجههما بالسر المصرفي، على المنوال الذي تتم فيه مراقبة المصارف التجارية، على ان يبلغا المخالفات للقانون التي قد يقعان عليها للجهة التي عينتهما. (3) تعديل قانون النقد والتسليف او قانون ديوان المحاسبة لتمكين الاخير من التدقيق في عمليات واعمال مصرف لبنان، ايضاً من دون الاعتداد بوجهه بالسر المصرفي، للتأكد من سلامتها وعدم مخالفتها للقانون. وهذا الامر معتمد لدى البنك المركزي الاوروبي الـ ECB وفرنسا وغيرهما...

السائد لدى العامة ان السرية المصرفية اللبنانية مقتبسة كما ذكر اعلاه من نظيرتها السويسرية والمقصود عادة السرية المتعلقة بأعمال المصارف، وقد نقلها واضعو قانون النقد والتسليف الى مصرف لبنان في المادة 151 من قانون النقد والتسليف، والاقتراح هو بتصحيح هذا الخطأ، واعتماد احكام مماثلة لتلك المعمول بها في سويسرا بالنسبة لمصرفها الوطني (المركزي). وقد سبقت الاشارة اليها اعلاه، وهي تقضي بسقوطها اي السرية امام (1) موجب الاعلان عن المخالفات الجرمية التي يكتشفها العامل في المصرف المركزي و (2) عند استدعاء الاخير للشهادة امام القضاء.

من المفيد في الختام الاشارة الى موقف جمعية المصارف بالنسبة للتعديلات المتعلقة بالسرية المصرفية. فقد حاولت حصر مفعول القانون المقترح بالحسابات والقيود المصرفية المستقبلية. اما موقف نقابة محامي بيروت فكان ربط الرجعية بمرور الزمن. وقد رد على ما سبق بالتالي: (1) إن إبقاء الحسابات والقيود المصرفية السابقة لإقرار القانون سرية إنما يشكل حائلاً أمام المحاسبة، وبمثابة عفو عام عن مجمل الجرائم التي يصعب إثباتها بغياب الكشف عنها. وهذا الأمر لا يتوافق مع التزام لبنان بمتطلبات المادة 40 من اتفاقية الامم المتحدة لجهة تذليل العقبات الناتجة عن السرية المصرفية. (2) إن مبدأ عدم رجعية القوانين ينطبق حصْراً على القوانين التي تخلق جرائم جديدة أو تنصّ على عقوبة أكثر قسوة. والامران غير متوافران في مشروع قانون تعديلات السرية المصرفية.


MISS 3