عيسى مخلوف

بين الاحتفال باللغة وتطويرها!

10 كانون الأول 2022

02 : 01

لوحة خطّية للخطّاط منير الشعراني

يُحتفَل بـِ"اليوم العالمي للّغة العربيّة"، كلّ عام، في الثامن عشر من هذا الشهر. بهذه المناسبة، تُعقد، منذ العام 2012، المؤتمرات والندوات داخل منظّمة اليونسكو وخارجها، في جامعات ومراكز ثقافيّة، للحديث عن واقع اللغة العربية، ومدى تفاعلها مع اللغات الأخرى، وعن حضورها في العالم الرقمي، وحجم وجودها في هذا الزمن. لكن، ماذا قدّمت هذه المؤتمرات والندوات حتّى الآن؟ هل كشفت عن خطّة جديدة لتحديث اللغة العربية، وتسهيل تعليمها، وجعلها مواكبة للعصر ولأسئلته وتحدّياته؟ وهل يكفي أن تكون اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية الستّ في الأمم المتحدة لتكون لغة فاعلة وإحدى اللغات الحيّة المؤثّرة في العالم المعاصر؟

الأسئلة التي طرحها النهضويّون في صدد اللغة العربية، بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ما زال بعضها الأساسي قائماً حتى يومنا هذا. ولقد كان للترجمات التي أُنجزت في تلك الحقبة، لا سيّما ترجمة التوراة، دورٌ مهم ترك أثراً إيجابياً على اللغة العربيّة. كما انعكست إيجاباً ترجماتٌ أخرى وكتابات أدبيّة، شعراً ونثراً، ومقالات صحافيّة، سجّلت نبض الحياة اليوميّة في وجوهها المتعدّدة. غير أنّ ذلك لم يكن كافياً، في غياب استراتيجية قائمة بذاتها للنهوض باللغة العربيّة، بل بالثقافة العربية ككلّ، واللغة مرآتها.

اللغة ليست وعاء ووسيلة لنقل الآراء والأفكار فقط. إنها أيضاً انعكاس لثقافة وطريقة في التفكير. من هنا التشديد على أهمّية التعدّد الألسني، والخشية من سيادة اللغة الواحدة التي ستصبح ممرّاً للفكر الواحد. اللغة الإنكليزية التي باتت تنتشر في القارات الخمس تمثّل تهديداً يواجه الإرث الإنساني بأكمله. في هذا السياق، ألم تستعمل الولايات المتحدة مجالات الإبداع المختلفة، وفي مقدّمها السينما، كسلاح لتمرير إيديولوجيّتها، كما تستعمل سلاح المعلوماتيّة اليوم بشكل واسع؟ ألا يتكلّم الإنترنت في الجزء الأكبر منه اللغة الإنكليزيّة (أكثر من 63 في المئة من المواقع المتداولة فيه مكتوبة بهذه اللغة). واللغة ليست أداة ثقافيّة وحسب، بل هي أيضاً أداة اقتصادية، وهذا ما جعل الصين تضاعف معاهد تعليم اللغة الصينيّة في العالم، والمسمّاة "كونفوشيوس".

للترجمة أيضاً دور كبير في إبراز طاقات اللغة وتفاعلها مع اللغات والثقافات الأخرى. نلاحظ اليوم أنّ القسم الأكبر من الكتب الحديثة الموجودة في معارض الكتب العربية، على امتداد العالم، هي كتب مُترجمة عن اللغات الأجنبيّة، وغالبية هذه الكتب لا تتوفّر فيها شروط الترجمة الموضوعية، بالإضافة إلى نقص فادح في ترجمة مجالات العلوم الإنسانيّة والفكر والفلسفة والاكتشافات العلميّة والتكنولوجيا. وإذا وجدنا بين الكتب المترجَمة كتباً فكرية وفلسفية، فالنسبة الأهمّ منها يعتورها النقصان. وثمة كُتب نُقلت إلى العربية في العقود الأخيرة خضعت لعملية حذف وتشويه طالت مقاطع وصفحات، وأحياناً فصولاً كاملة، لأنها لا تتناسب مع إيديولوجية الجهة المترجِمة وتوجّهاتها، فضلاً عن غياب المترجم المصطلحي الموسوعي لبلوغ رؤية كفيلة بنقل المعرفة وتحسين الاستعمالات اللغوية لتتمكّن من احتضان المعارف المستحدثة ولتكون بالفعل لغة علم وتقدّم. وكيف يتحقّق ذلك في ظلّ الرقابة المفروضة في غير مكان على حرّية الرأي والتعبير، وعلى اعتبارات لا تمتّ بِصِلة إلى العلم؟ كيف يمكن أن يتحقّق ذلك في غياب مَجمع لغوي جديد (يتماشى مع روح العصر)، وأكاديميّات نموذجيّة للترجمة، ومراكز بحوث علميّة؟

لا يمكن التعامل مع اللغة من دون وعي فكري. في "عصر الأنوار"، لم يكن الفيلسوف الفرنسي دوني ديدرو موسوعيّاً وعالم لغة فقط، بل كان أيضاً فيلسوفاً ومفكّراً، وهو مثال العلاقة بين الفكر واللغة. السؤال إذاً هو في كيفيّة تطويع اللغة، والإفادة من اشتقاقاتها وإمكاناتها، وجعلها انعكاساً فعلياً لوجود الإنسان وثقافته.

في فضاء اللغة دائماً، هناك قواميس تكتفي بالالتفات إلى أصول الكلمات واشتقاقاتها، وأخرى تذهب أبعد من ذلك وتقتفي أثر الواقع الراهن والتحوّلات التي يعيشها العالم في جميع الميادين والحقول، ويستقي المشرفون على هذه القواميس من الواقع اليومي كلمات جديدة. إنّ سهولة الانتقال والسفر والترجمة والدراسة المعمّقة للألسنيات، ساهمت في تغيير العلاقة مع اللغة، وجعلت اللغات تنفتح على بعضها بعضاً. القاموس العربي، في الجزء الأكبر منه، لا يشكّل في إحالاته ومرجعياته انعكاساً لما هو حيّ ومتحرّك، ولا يواكب التغيّرات الجارية، بل إنه، في أحيان كثيرة، ينقل توجّهات غير علميّة ولا علاقة لها بمعايير القواميس الحديثة. وهو، في جوانب كثيرة منه، صورة لماضٍ مضى ولتقاليد وعادات ومفاهيم ذكورية، والأمثلة على ذلك لا تُحصى.