مارلين لاروييل

حرب بوتين ومخاطر تفكّك روسيا

15 كانون الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الساحة الحمراء | موسكو، تشرين الثاني 2022

فيما يكثّف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جهوده لمتابعة حربه في أوكرانيا، أصبح استقرار نظامه على المحك. يتوقع بعض المراقبين إسقاط الرئيس الروسي، حتى أن آخرين يتمنون أن يتفكك البلد. لكن هل يمكن أن تنهار روسيا فعلاً؟



تبقى خصائص روسيا الجغرافية عائقاً أمام تماسك البلد، فهي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وتبلغ نسبة السكان من أصل غير روسي 20%، فهم ينتمون إلى شعوب أصلية محلية أخرى. وبعدما احتلت موسكو المرتبة الثالثة من بين المدن الأكثر ازدهاراً في العالم وفق تصنيف مؤشر ازدهار المدن الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، قبل أسابيع قليلة على بدء الحرب في شهر شباط، غرق جزء واسع من شبه القارة السيبيرية في الفقر وتراجعت فيه الكثافة السكانية. في أقصى الشمال، تطغى مدن صناعية استخراجية متدهورة على المنطقة. وفي الشرق الأقصى، أصبح السكان على صلة بالصين، واليابان، وكوريا الجنوبية أكثر من موسكو وسانت بطرسبرغ من الناحية الاقتصادية. وفي عهد بوتين أيضاً، تركّزت السلطة في موسكو وتراجعت الاستقلالية السياسية والثقافية في المقاطعات.

لم يكتفِ بعض المراقبين الغربيين بتوقع انهيار روسيا، بل إنهم دعموا هذا المسار باعتباره حلاً للتحركات الروسية الدولية. لكنّ تفكيك البلد لن يحل "مشكلة روسيا" مع الغرب. لضمان مستقبل إيجابي لروسيا وجيرانها، بما في ذلك أوكرانيا، وبقية دول العالم، يجب أن يعيد البلد ابتكار نظامه الاتحادي من الداخل بدل أن ينهار.

قد تتصاعد الدعوات من موسكو لتوسيع مظاهر الحُكم الذاتي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. أدت التعبئة العسكرية في شهر أيلول الماضي إلى صدور ردود أفعال عنيفة في المناطق التي تشمل عدداً كبيراً من الأقليات العرقية وكانت قد سجّلت نسبة مرتفعة من القتلى وسط المجندين. وحتى رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يعتبر نفسه جندياً مخلصاً لبوتين، أوقف التعبئة في الشيشان قبل القادة في مناطق أخرى، فأعلن أن جمهوريته سبق وقامت بما يتوجّب عليها. وفي شهر أيلول، اتخذت زوجة مفتي داغستان موقفاً مشابهاً.

كذلك، قد تطلق التغيرات الديمغرافية المتوسّعة دعوات متزايدة إلى اللامركزية. من أصل 20 منطقة روسية تُسجّل نمواً إيجابياً في عدد السكان، تشمل 19 منطقة نسبة مرتفعة نسبياً من الروس غير العرقيين. ينطبق ذلك على داغستان والشيشان في شمال القوقاز وتوفا في سيبيريا. وفي جمهورية سخا الواقعة في أقصى شمال روسيا، زاد العدد السكاني في العاصمة ياكوتسك بنسبة الضعف على مر 30 سنة بفضل توافد الشباب من المناطق الريفية إلى المدينة، فباتت هذه المنطقة من أكثر المدن الروسية حيوية وأصبحت رمزاً لثقافة البلد الأصلية.

قد تكون المشاكل التي تواجهها الأقليات العرقية الروسية كبيرة، ومع ذلك لا تدعو هذه الجماعات إلى الانفصال عن روسيا. تكشف استطلاعات الرأي وجود حس وطني قوي تجاه الدولة الروسية في الجمهوريات العرقية. قد يتوقع البعض أن يطالب هؤلاء السكان بالاستقلال إذا بدأت عملية الانفصال. لكن قد تتابع أغلبية من الناس اعتبار روسيا وطنها الأصلي، وقد تُسَرّ بتوسيع استقلاليتها الثقافية والسياسية.

رغم غياب الأدلة التي تشير إلى تفكك روسيا من الداخل، يحبذ بعض صانعي السياسة الغربية هذا الاحتمال. اعتبرت لجنة الأمن والتعاون في أوروبا إنهاء الاستعمار الروسي "هدفاً أخلاقياً واستراتيجياً". في شهر أيار، أدلى الصحافي المعادي للكليبتوقراطية، كايسي ميشيل، بتصريح مشابه في صحيفة "ذا أتلانتيك"، فقال: "يجب أن ينهي الغرب المشروع الذي بدأ في العام 1991. ويجب أن يسعى إلى إنهاء الاستعمار الروسي بالكامل". كذلك، قال الصحافي سيرغي سومليني من مركز تحليل السياسة الأوروبية: "انهيار روسيا؟ إنه نبأ سار للجميع".

صدرت مواقـــف مماثلة من بولندا وأوكرانيا. دعا الرئيس البولندي السابق الفائز بجائزة نوبل، ليخ فاونسا، ستين شعباً من الشعوب التي استعمرتها روسيا إلى الانفصال عنها كي تصبح روسيا بلداً يقتصر على 50 مليون نسمة (بدل 140 مليوناً). كذلك، نظّمت عصبة الأمم الحرّة ومنتدى شعوب روسيا الحرّة اجتماعات في أوروبا الوسطى للدعوة إلى "تحرير الأمم الأسيرة": تعود هذه الصيغة إلى عهد القياصرة، حين اعتبر المعارضون روسيا "سجناً للأمم"، وترتبط أيضاً بكتلة الأمم المناهضة للبلشفية والمدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خلال الحرب الباردة.

تألّف معظم المشاركين في تلك الاجتماعات من منفيين ينتمون إلى أقليات عرقية في روسيا وشخصيات روسية معارِضة. خلال اجتماع في براغ، في شهر أيلول الماضي، نشر منتدى شعوب روسيا الحرة مثلاً "إعلان إنهاء الاستعمار الروسي" مع خارطة لروسيا المفككة التي تشمل حوالى 30 جمهورية جديدة.

لكن يجب ألا يقع صانعو السياسة الغربية في الفخ ويخلطوا بين مواقف المنفيين السياسيين المتطرفة وآراء المواطنين الروس التي تحمل بُعداً مختلفاً. يخطئ من يفترض أن الأقليات القوية ستشارك تلقائياً في إنشاء نسخة روسية أكثر تناغماً مع المعايير الغربية. لا تُعتبر الأقليات العرقية أكثر ميلاً من الأغلبية العرقية الروسية إلى دعم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحُكْم الرشيد، والليبرالية الموالية للغرب.

لا يقع الانقسام الثقافي الأساسي في روسيا بين الروس العرقيين والأقليات، بل بين المدن الكبرى وبقية أجزاء البلد، أي المناطق المتدهورة صناعياً، والمقاطعات الريفية، والجمهوريات العرقية. حملت المدن الكبرى في روسيا مؤشرات متزايدة على مشاركة المجتمع المدني ودعم التعددية الشعبية خلال العقد الأخير، مع أن هذه النزعة بدأت تتراجع منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. في المقابل، يكون سكان الأرياف والأقليات أكثر تحفظاً على مستوى الأعراف الثقافية وأكثر دعماً للنظام الاستبدادي والذكــــوري. في غضون ذلك، ستكون الأقليات المسلمة أكثر ميلاً على الأرجح إلى معارضــة حقوق الإجهــاض، وقوانين الطلاق الليبرالية، والمساواة في أماكن العمل، وحقوق المثليين. حتى أنها أكثر استعداداً لإدانة حلف الناتو والولايات المتحدة بسبب سياساتهما في الشرق الأوسط.

تبقى الدعوة إلى تفكيك روسيا استراتيجية خاطئة إذاً، فهي ترتكز على جَهْل تام للعوامل التي تضمن تماسك المجتمع الروسي بجميع فئاته. حتى أن هذه الاستراتيجية لا تفكّر باحتمال أن يعطي تفكك روسيا عواقب كارثية على الأمن الدولي. قد ينتج هذا الانهيار عدداً من الحروب الأهلية، فتتقاتل الدويلات الجديدة على الحدود والمكاسب الاقتصادية. في هذه الحالة، ستردّ النُخَب الحاكمة التي تسيطر على ترسانة نووية ضخمة في موسكو عبر استعمال العنف للتصدي لأي حركة انفصالية، وستسحق الأجهزة الأمنية ووكالات إنفاذ القانون أي محاولة لإرساء الديمقراطية إذا كانت هذه الحملة تعني تكرار تجربة تفكيك الاتحاد السوفياتي. قد يبدو مفهوم إنهاء الاستعمار مرادفاً للتحرر، لكنه قد يجعل روسيا ككل ومناطق الأقليات العرقية أكثر رجعية.

في النهاية، يبقى تفكك روسيا احتمالاً مستبعداً. لكن بعد الحرب الكارثية التي أطلقها بوتين في أوكرانيا، سيواجه النظام ضغوطاً متزايدة لتطبيق اللامركزية. في أفضل الأحوال، يجب أن يصبح الحُكم الذاتي المحلي واقعاً ملموساً، علماً أن هذا المبدأ كان مذكوراً في الدستور الروسي قبل أن يلغيه بوتين.

لن تكون هذه النسخة المتجددة من الفدرالية في روسيا ممكنة إلا إذا ترافقت مع اعتراف وطني بإرث الاستعمار الروسي. ستكون إعادة تقييم الوضع أساسية بالنسبة إلى الروس العرقيين والأقليات في آن. كما حصل في الولايات المتحدة وأوروبا، يتطلب هذا النوع من التحولات الاجتماعية عقوداً طويلة، لكنها تجربة تستحق العناء. وحدها روسيا التي تطبّق اللامركزية السياسية والثقافية تستطيع إصلاح نفسها من الداخل.


MISS 3