لم يكن يوم السابع عشر من تشرين الأول أول أيام الثورة، بل بدا كأنه التاريخ الذي تجمّع فيه الغضب الشعبي المتراكم ليعلن نهاية مفسدة ربضت على صدر الوطن منذ عقود. لم تمرحل الثورة مطالبها بل رمتها في وجه أهل الحكم دفعة واحدة تحت عنوان إسقاط السلطة وإعادة تشكيلها، وهو شعار لا يرفع إلا في المرحلة النهائية من الثورات. لقد طالبت الثورة بكل شيء دفعة واحدة. كأن كل الاحتجاجات السابقة، من انتفاضة الاستقلال حتى التظاهرات العلمانية تحت المطر ومسيرات القرف من السلطة ونفاياتها، كانت تحضر للثورة. لكن الثورة ليست مجموع الانتفاضات السابقة عليها ولا هي تشبهها. كأنها البداية والنهاية معاً. بدايتها مع جيل جديد أو جيل مخضرم، خرج من الانقسام الآذاري بين 8 و14، ولم يقبل المساومة مع سلطة الفساد ولم يتدرج بمطالبه، بل وضعها في سلة واحدة عجز عن حملها أهل الحكم من المحاصصين.
نعم، السلطة مهددة بمصيرها. هذا هو مأزقها. لا خيارات كثيرة أمامها. لذلك لن تستسلم بسهولة. لن تذعن من غير مقاومة، لكن أوراق قوتها لم تعد صالحة لمناورات ناجحة ومستديمة، بعد أن باتت مفضوحة وعارية، وبعدما لم تعد تكفيها ورقة التين لإخفاء عورات النهب وبيع السيادة وانتهاك الدستور والكرامة الوطنية. ورقة القوة الوحيدة التي تملكها هي هبة من ثوار أوكلوا إليها المصادقة على عملية تغيير باهظة الكلفة، تغيير لا يعني غير إزاحتها من موقعها، كخطوة على طريق نقلها من نعيم السلطة إلى جحيم الإدانة. الثورة هي التي رسمت طريق التغيير. صارت هي مصدر القرار، وعلى أهل السلطة التنفيذ. وكيف للسلطة أن توقع على مرسوم إنهاء خدماتها. لذلك توقع أحدهم أن "يسحبوهم من بيوتهم" لولا الطائفية، والصحيح، لولا الميليشيات.
قوة الثورة برنامجها الموحد: إعادة تشكيل السلطة، بانتخابات مبكرة على قانون جديد وبالفصل بين السلطات، ليعود القضاء إلى موقعه الطبيعي كإحدى السلطات الثلاث في نظام ديموقراطي، وليصير قادراً على محاسبة من وضعوا اقتصاد البلاد على شفير الانهيار. هي تملك أوراق قوة كثيرة، أهمها تصميم جيل من الشباب والشابات على حمل الراية وتقدم الصفوف وقيادة الثورة لتخليص بلدهم من حكم الميليشيات. لكن الثورة تقف أمام اللحظة الأصعب من مسيرتها: هي اختارت الطريق السلمي، فيما يشاركها المسار من يسلك طريق العنف (مقالتنا السابقة عن العنف الحلال)، وهي أوكلت إلى المؤسسات الدستورية المصادقة على برنامج التغيير، فيما يستحيل أن يحكم الجاني على نفسه بالإعدام.
وهي ضمت في صفوفها مختلف مناهج التفكير والتحليل، فكان فيها من انطلق من التفسير الطبقي ومن رأى فيها انعكاساً للصراع على القضايا القومية والدولية، ومنهم من أدرجها في إطار ثورات الربيع العربي، وكان في صفوفها من حمل هموم الجوع والفقر والبطالة والموت على باب المستشفى، ولكل من هؤلاء أولوياته في وضع المهمات بين تكتيكية واستراتيجية.
غير أن هذه ليست سوى صعوبات لا ترقى إلى حد المأزق، هي صعوبات قد تعرقل مسار الثورة من غير أن تهدد مصيرها، ولا بد أن تجد طريقها إلى المعالجة. غير أن الأكيد هو أن الثورة، رغم هذه الصعوبات، أحدثت زلزالاً في عرش السلطة لن تتوقف ارتداداته إلا مع إعادة بناء الوطن والدولة وجمهورية تليق باللبنانيين الشرفاء والمبدعين.