جوزيف حبيب

الجلجلة الأرمنية: من "مسيرات الموت" إلى "جحيم" أرتساخ!

21 كانون الثاني 2023

02 : 00

منطقة جنوب القوقاز تقف فوق صفيح ساخن (أ ف ب)

لقد تعمّدت أراضي جنوب القوقاز والمشرق ومساحات واسعة مِمّا كان يُعرف سابقاً بـ»الأمبراطوريّة العثمانيّة»، بدماء مئات آلاف الأرمن الأبرياء، وغيرهم من الشعوب السريانية والكلدانية والآشورية واليونانية... أقلّه منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولاً إلى أيّامنا البائسة هذه. دفع الأرمن على مرّ العصور «فاتورة الدم» باهظة الثمن نتيجة حضورهم في منطقة تعلو فيها أصوات بربريّة لا ترحم الجماعات المتمايزة عنها حضاريّاً والتي تسعى إلى ترجمة هذا التمايز سياسيّاً وكيانيّاً، عبر حقّها في تقرير مصيرها والعيش بكامل حرّيتها وكرامتها بما يحفظ تقاليدها وثقافتها وتراثها ولغتها وسُلّم قيمها ووجودها الحرّ والفاعل...

كما دفع الأرمن ثمن وجودهم على بقعة أرض تتقاطع فيها «فوالق» جيوسياسيّة ودينيّة وعرقيّة ولغويّة... تتزعزع بشكل حاد عند أي اختلال في موازين القوى الإقليميّة والدوليّة القائمة، لتبتلع شعوباً متواجدة في «المنتصف البرمودي». وهكذا، تُصبح «مجموعة حضاريّة» بأكملها، بمثابة «كبش فداء» لأمبراطوريّة تُنازع الموت فترتكب «إبادة جماعيّة» بحق شعب بأسره لتعويض خسائرها العسكريّة والجغرافيّة الفادحة. ليكتب التاريخ بعدها قصصاً مأسويّة عن أبشع أنواع الإجرام الجماعي التي تُرتكب عن سابق تصوّر وتصميم وتخطيط بحق جماعة برمّتها، تماماً كما حصل مع الشعب الأرمني على يد «السلطنة العثمانيّة»، خصوصاً عبر «مسيرات الموت» إلى الصحراء السوريّة.

ولم تنتهِ جلجلة الأرمن في صفحات التاريخ، لكنّ المنطقة القاسية مدّدت معاناتهم إلى الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، لا سيّما أرمن «جمهوريّة أرتساخ» (ناغورني قره باغ)، حيث تحوّلت حياة نحو 120 ألف أرمني إلى جحيم إذ يُعانون من «أزمة إنسانيّة» خطرة بفعل الانقطاع المستمرّ في التيار الكهربائي والإنترنت وشحّ المواد الغذائيّة والدواء والغاز ومشكلات في التدفئة... وكلّ هذا نتيجة قطع أذربيجان الشريان الحيوي الوحيد الذي يربط أرتساخ بأرمينيا تحت حجج بيئيّة واهية، ألا وهي ممرّ لاتشين.

وممرّ لاتشين هو طريق جبلي يمتدّ على نحو 32 كيلومتراً ويربط «الجمهوريّة» ذات الغالبية الأرمنية الواقعة في عمق الأراضي الأذربيجانيّة بدولة أرمينيا. وتشهد أرتساخ اليوم موجة صقيع قارس، حيث تصل درجة الحرارة إلى ما دون الـ10 تحت الصفر، ما يجعل خطوة قطع طريق حيوي تمرّ عبره البضائع والمواد الأوليّة والأساسية لآلاف السكّان، بمثابة محاولة ارتكاب «إبادة جماعيّة» جديدة بحق مجتمع أرتساخ الذي يُقاوم البرد والحصار باللحم الحيّ على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه.

شهدت أرتساخ المدعومة من أرمينيا حربَين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، الأولى حصلت في مطلع التسعينات وانتهت بانتصار الأرمن. لكنّ باكو، التي استثمرت عائدات النفط والغاز والموارد الطبيعية لبناء جيشها وتسليحه وتجهيزه، انتقمت خلال حرب ثانية في خريف 2020 والتي سمحت لها باستعادة مساحات من الأراضي في محيط أرتساخ كانت تحت سيطرة يريفان، مستفيدة من عوامل إقليميّة ودوليّة عدّة. فلقد نسج النظام المستبدّ في باكو بقيادة ابن الرئيس الراحل حيدر علييف، الرئيس إلهام علييف، ونائبته السيّدة الأولى مهريبان عالييفا، شبكة تحالفات إقليميّة مصلحيّة متشعّبة، تبدأ بتركيا ولا تنتهي بإسرائيل.

وبالتالي، استطاعت أذربيجان بفضل غناها بالموارد الطبيعية وعبر إقامتها تحالفات خارجيّة قويّة، التخلّص من العتاد السوفياتي القديم وشراء أسلحة حديثة، من آليّات عسكريّة ودبّابات ومدفعيّة وطائرات، لا سيّما مسيّرات «أي إيه أي هاروب» الانتحارية الإسرائيلية، التي أظهرت فعالية كبيرة في «الحرب الثانية»، و»بيرقدار تي بي 2» التركية. في المقابل، لم تكن أرمينيا (2.8 مليون نسمة)، الدولة الفقيرة نسبيّاً مقارنةً مع أذربيجان (10.1 ملايين نسمة)، مهيّأة عسكريّاً بما يكفي لمواجهة الجيش الأذربيجاني، الذي مدّته أنقرة بآلاف من الجهاديين السوريين المرتزقة، خلال هجومه على محاور أرتساخ المطوّقة عمليّاً بالأراضي الأذربيجانية، فضلاً عن أن يريفان لم تحصل على أي مساعدة من «منظّمة معاهدة الأمن الجماعي»، الحلف العسكري بقيادة روسيا الذي تنضوي أرمينيا في إطاره، تحت حجّة أن أراضي أرتساخ ليست تابعة للسيادة الأرمينية.

علماً أن «منظّمة معاهدة الأمن الجماعي» لم تُحرّك ساكناً حتّى عند اندلاع مواجهات دموية على الحدود بين أرمينيا وأذربيجان في أيلول من العام الماضي، في وقت يتصاعد فيه التوتر السياسي والديبلوماسي بين يريفان وموسكو دراماتيكيّاً، خصوصاً بعد أن أعلن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في العاشر من الشهر الحالي رفض بلاده استضافة مناورات عسكرية لـ»منظّمة معاهدة الأمن الجماعي» هذا العام، احتجاجاً على موقف «الحلف» من الصراع مع أذربيجان وعلى عدم اضطلاع روسيا بدورها كما يجب كـ»ضامنة» مفترضة لأمن أرمينيا.

وتأخذ يريفان على موسكو في الآونة الأخيرة عدم مبالاتها بإغلاق باكو ممرّ لاتشين الحيوي بالنسبة إلى أرتساخ، حيث تنتشر كتيبة حفظ السلام الروسية التي لم تفتح حتّى الساعة الممرّ المُغلق منذ 12 كانون الأوّل 2022 وتضمن حركة طبيعيّة من خلاله، وهو الذي يُشكّل المتنفّس الوحيد لعشرات آلاف الأرمن الذين باتوا اليوم معزولين عن العالم. وبينما تُعاني أرمينيا في علاقتها مع حليفتها التاريخيّة روسيا التي تغرق أكثر فأكثر في «المستنقع الأوكراني»، تتمتّع أذربيجان بعلاقات استراتيجية صلبة مع تركيا، إضافةً إلى علاقتها المتنامية مع الدولة العبريّة، حيث استضافت باكو الأربعاء الماضي مؤتمراً للسفراء والديبلوماسيين الإسرائيليين من منطقة أوراسيا والذي ترأسته رئيسة المنظومة السياسية الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإسرائيلية السفيرة عليزا بن نون.

لقد دخلت الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي، التي تتعمّق شراكاتها مع يريفان بشكل مضطرد، على خطّ النزاع بقوّة سياسيّاً وديبلوماسيّاً في الآونة الأخيرة، ونظّمت لقاءات جمعت مسؤولي البلدَين المتخاصمَين مرّات عدّة، لكن من دون تحقيق أي خرق يُذكر على طاولة المفاوضات. فالقوّة تبقى «الحكم الأخير» في العلاقات بين الدول والكيانات والمجموعات. ويبدو أن أذربيجان، مدفوعة من أنقرة، تُحاول الإنطلاق من مكاسبها الميدانيّة الأخيرة للتمادي في تضييق الخناق حول أرتساخ وكسر روح المقاومة الجماعيّة لأهلها وسحق معنويّاتهم واستنزافهم في أبسط مقوّمات العيش اليومية، تمهيداً لاحتلال «الجمهوريّة» برمّتها وضمّها لاحقاً بأقلّ قدر من الخسائر، عبر اقتناص الفرصة الدوليّة المؤاتية للقيام بذلك.

وفيما لم تنجح بعد الدعوات والجهود الدوليّة في فتح ممرّ لاتشين، لا تحتمل أرتساخ أن تبقى من دون متنفّس لوقت طويل، فالحصار بدأ يُغيّر طبيعة الحياة اليومية لأهل «الجمهوريّة» الذين يُعانون من نقص خطر في الغذاء والأدوية والمواد الأوليّة، انعكس تردّياً في نوعيّة الخدمات المقدّمة في مختلف المجالات. وإن استمرّت الوساطات والضغوطات الدولية بالفشل بإعادة فتح ممرّ لاتشين، سترتفع حتماً احتمالات اندلاع مواجهات جديدة بين أرمينيا وأذربيجان مع الوقت، والتي قد تتطوّر إلى حرب كبيرة في جنوب القوقاز. فهل تنجح موسكو وواشنطن وبروكسل بلجم «القوى العدوانيّة» وفتح الممرّ وتثبيت وقف إطلاق النار، وبالتالي منع نشوب حرب جديدة والتمهيد لمحادثات سلام حقيقيّة، أم أن تضارب المصالح الدوليّة بين القوى المعنيّة بالملف الحسّاس سيُفجّر نزاعاً دمويّاً أكثر مَن قد يدفع ثمنه من جديد هم الأرمن؟


MISS 3