جاد حداد

حين يُصبح الإجهاد التام خارج السيطرة

28 شباط 2020

13 : 30

من الشائع أن يسرد علماء النفس هذه القصة: أنت موجود على ضفة نهر، ثم تجرف الماء شخصاً يوشك على الغرق، فتقفز وتنقذه. ثم يليه شخص آخر بالوضع نفسه ويتكرر ما حصل. ثم يظهر خمسة آخرون، ثم عشرة... تعمل أنت وعشرات الأشخاص الصالحين على إنقاذ الغارقين بوتيرة جنونية. لكنهم لا يكفّون عن الظهور. سرعان ما تخسر قدرتك على إنقاذ الناس وتتراجع حماستك. أنت تجهد نفسك كي تنقذ الآخرين! فجأةً، يبدأ أحد الأشخاص بالركض عكس التيار. تقول له صارخاً: "أين تذهب"؟ فيجيب: "أريد معرفة السبب الذي يجعل هؤلاء الأشخاص كلهم يغرقون"!

لن يعاني ذلك الشخص الذي غيّر وجهته من الإجهاد التام! ما لم تقرر السير عكس التيار وتغيير سبب المشكلة، ستتابع إتمام المهام المتلاحقة من دون أن تحقق أي نتائج مهمة إلى أن يصبح الوضع لا يُطاق.ما من تعريف عيادي واضح لمصطلح "الإجهاد التام"، لكن يقول معظم الباحثين إن الشخص يبلغ هذه الحالة المتفجرة حين يشعر بإرهاق دائم ويسيطر عليه التشاؤم وتتراجع فاعليته. يقول الدكتور مايكل ليتر، أستاذ في علم النفس التنظيمي في جامعة "ديكن" الأسترالية: "يظن عدد كبير من الأشخاص أنهم مصابون بالإجهاد التام، لكنهم يعانون فعلياً من إرهاق جسدي كامل. يحب هؤلاء عملهم رغم كل شيء ويستطيعون أن يحسنوا أداءهم المهني مجدداً شرط أن يعيدوا شحن طاقتهم". أما الإجهاد التام الحقيقي، فلا يمكن أن يرتاح منه الشخص مهما فعل. هذا ما يلاحظه معظم العمال المرهقين حين يشعرون بالضعف في الساعة الحادية عشرة صباحاً بعد أول عطلة يأخذونها منذ عشر سنوات! قد لا تتمكن على الأرجح من معالجة جميع المشاكل التي سببت لك الإجهاد التام، لكنك تستطيع أن تصلح بعض المسائل الكامنة وراء الخلل الحقيقي. استهدف تلك المسائل قبل أن تنهار بالكامل...


إخضع لفحوصات الاكتئاب


يقول رينزو بيانشي، باحث نفسي في جامعة "نيوشاتل"، سويسرا: "خلال العقد الماضي، اتّضح بشكلٍ متزايد أن الإجهاد التام مصطلح مُلطَّف بدل الاكتئاب". نشر بيانشي تقارير كثيرة عن التداخل القائم بين الإجهاد التام والاكتئاب. لكن يخالفه الرأي عدد كبير من الباحثين الذين يركزون على موضوع الإجهاد التام منذ فترة طويلة، وهو موقف مبرر. بغض النظر عن اعتبار الإجهاد التام والاكتئاب حالة واحدة أو حالتين منفصلتين، من الأفضل أن يخضع الشخص للفحوصات اللازمة لتشخيص وضعه.للاكتئاب علاجات معروفة وفاعلة (على عكس الإجهاد التام). ومن خلال تلقي تلك العلاجات، قد تحصل على إطار واضح لاستهداف المشاكل التي تنعكس سلباً على حياتك وتُجرّدها من السعادة، بما في ذلك حيرتك المتزايدة بشأن وضعك المهني.


توقف عن استعمال مواقع التواصل الاجتماعي كمنفذ لك!


يسهل أن تتصفح باستمرار ما يفعله الآخرون وتحتسب في لاوعيك مستوى أدائك في العالم الافتراضي، بما أن أصدقاءك قد يحصدون 700 متابع إضافي على "إنستغرام" أو "لينكد إن"، مع أنهم لم يقابلوهم إلا مرة واحدة أو لم يلتقوا بهم منذ أعوام. أضف إلى ذلك الشعارات الرنانة، مثل "اتبع شغفك"، والعبارات المشابهة التي باتت راسخة في وعي محيطك أكثر مما كانت عليه في بيئة العمل في عصر والدك. تلقي هذه الأجواء بأعباء إضافية على عملك وتجعل الجهود التي تبذلها على مدار الساعة بلا معنى أو هدف. إليك حل واضح لكن مفيد: حاول أن تحدّ من الأوقات التي تمضيها في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي وابتكر شعاراً خاصاً بك من شأنه أن يعطيك دفعة إيجابية.


جِدْ من يساعدك


يشعر معظم المصابين بالإجهاد التام بالعزلة والتهميش، وتعكس هذه المشاعر حقيقة وضعهم. تكون العلاقات القوية أفضل رادع أو علاج للإجهاد التام. ستشعر بالتحسن، ولو لفترة معيّنة، حين تتلقى دعماً عاطفياً من صديق وتجد من يتعاطف معك. يقول الدكتور إيرفين شونفيلد، أستاذ في علم النفس في "جامعة مدينة نيويورك": "تسمح هذه الطريقة بتطهير عواطفك بدرجة معينة، لكنها لا تحلّ أياً من مشاكلك على المدى الطويل".

لا شك في أن أفضل شخص يمكنك التكلم معه هو مديرك. لكن إذا سبق وحاولت التعاون معه لتحديد الأولويات (من خلال تقليص عدد المهام العاجلة من وقت لآخر مثلاً) ورسمت الحدود اللازمة في عملك (عبر الامتناع عن مراجعة الرسائل الإلكترونية في عطلة نهاية الأسبوع)، ستستفيد من إيجاد شخص تستطيع التكلم معه. لن تكون هذه المهمة سهلة بأي شكل، لأنك تعرف على الأرجح أنك استنزفت جميع أنواع المساعدة التي يمكنك تلقيها من أي شخص صادق ومستقيم من حولك. مع ذلك، حاول أن تعطي الأولوية لتمضية وقت اجتماعي ثمين مع أي شخص يستطيع مساعدتك على معالجة مشاكلك المهنية على المدى الطويل. ستحصد بهذه الطريقة منفعة مزدوجة: سيتراجع شعورك بالوحدة والعجز.


لا تنتظر من دون تحريك أي ساكن


حين تصاب بالإجهاد التام، قد تصل إلى نقطة اللاعودة. عندما تصبح المظاهر السلبية التي تربطها بعملك أقوى من اللزوم، قد تصل إلى مرحلة تضطر فيها للانسحاب. قد يتطلب التعافي من الإجهاد التام وقتاً طويلاً ومؤلماً. يقول الدكتور ويلمار شوفيلي، أستاذ في علم النفس في جامعة "أوتريخت" الهولندية: "تكشف الأبحاث أن الشخص يحتاج إلى سنتين ونصف تقريباً للتعافي إذا لم يتلقَ المساعدة اللازمة من أهل الاختصاص". بحلول تلك المرحلة، ستكون قد تخلّيتَ طبعاً عن راتبك وزخمك المهني. لذا سيكون إخماد هذه المشكلة قبل أن تحرقك بالكامل أفضل خطوة مهنية وشخصية يمكنك اتخاذها.


أبرز حالات الإجهاد المهني التام


لا داعي كي تواجه هذه المشاكل كلها كي تنهار! بل يقول خبراء الإجهاد التام إن أي مشكلة منها قد تحرقك، لا سيما إذا لم تتمكن مصادر السعادة في حياتك من التعويض عن النقص:

  • تتراجع سيطرتك على مسار عملك أو تخسرها بالكامل.
  • راتبك سيئ للغاية.
  • المحيطون بك سيئون.
  • الجو العام موبوء (بسبب المحسوبيات المجحفة مثلاً).
  •  أعباء مهنية مفرطة: قد تعمل بوتيرة جنونية، لكن بكل سرور، إذا كانت الضغوط الأخرى غير مؤثرة. في المقابل، قد يدمّر الإجهاد التام جسمك من خلال زيادة مستوى العناصر الكيماوية المرتبطة بالضغط النفسي دفعةً واحدة، وتسريع معدل ضربات القلب في أوقات الراحة، ورفع ضغط الدم، وإطلاق مرض السكري، وإضعاف الخصوبة، وإنشاء مرض الشريان التاجي (قد يكون الضغط النفسي مسيئاً للقلب بقدر التدخين!). اكتشف استطلاع أجرته شركة "غالوب" الأميركية الاستشارية أن المصابين بإجهاد تام كانوا أكثر ميلاً من نظرائهم إلى زيارة قسم الطوارئ في المستشفى خلال السنة السابقة بنسبة 23%، لكنه لم يسأل عن السبب. عملياً، قد يترافق الإجهاد التام مع أعراض مخيفة، مثل خفقان القلب والضعف العام، لذا لا بد من تشخيص الوضع بغض النظر عن السبب.
MISS 3