حسان الزين

النص والإخراج فرصة لمناظرة الخطابَين الشعبيَّين العاجزَين

"النار بالنار" يفتح سجالاً لبنانياً - سورياً: قوة الممثّلين والدراما تغلب العنصرية

4 نيسان 2023

02 : 01

نشر خباز صورة مع كاريس توحي بأجواء إيجابية بينهما

قبل أن تتضح قصّة المسلسل الرمضاني «النار بالنار» الذي يجمع سوريين ولبنانيين في حارة في بيروت، ومع الحلقات الأولى من ثلاثين، انفجر سجال لبناني - سوري. وقد خرج التوتر من وسائل التواصل الاجتماعي، وشهد إطلاق نار عنصري.



على رغم كون موضوع العلاقات اللبنانية - السورية، الذي يتناوله المسلسل، ملفاً ساخناً وحاضراً دائماً، سواء أكان في السياسة أم في المجتمع ووسائل التواصل، إلا أن النيران التي أشعلت السجال لم تأتِ من السياسة هذه المرّة، إنما من ردّة فعل شعبية أججتها المشاهدة المتسرّعة لأحداث المسلسل، ولا سيما منها المواجهة بين عزيز (جورج خباز)، اللبناني ابن فنان مخطوف (أحمد قعبور) وتشير أصابع الاتهام إلى النظام السوري، وبين مريم (كاريس بشار) اللاجئة السورية زوجة رجل مفقود في بلادهما أيضاً.

هكذا، سرحت ردّة الفعل الشعبية العنصرية ومرحت في أجواء المنافسة الدرامية الرمضانية بين المسلسلات ونجومها. لكنّ، وعلى رغم ذلك، برز رأي واسع على وسائل التواصل الاجتماعي يصر على البعد الدرامي، التمثيلي والقصصي والإخراجي، ويحتفي به، وينتقد العنصرية.

وقد استشعر نجوم المسلسل والقيّمون عليه بمخاطر اللعبة. ومن تلك المخاطر التي لاحت في الأفق دفعُ العمل الدرامي إلى حلبة لا يريدها وتهدد فهمه ورسالته وعرضه في لبنان خصوصاً. وهو ما دفع، ربما، نجوم المسلسل، وعدداً من السياسيين والنقاد الفنيين والمتابعين للدراما، إلى تبريد الأجواء ومقاومة الموجة العنصرية وتفجّر الأحقاد وامتدادها إلى المجتمع المضيف للاجئين السوريين، كما حصل غير مرّة في لبنان وبلدان أخرى.

كباش بين السياسي والدرامي


ووسط السجال الذي تحوّل إلى كباش بين البعد الدرامي- السياسي- الاجتماعي من جهة، والبعد السياسي- العنصري من جهة ثانية، دعا أحد الأبطال اللبنانيين المشاركين في «النار بالنار»، خبّاز، إلى متابعة المسلسل. وفي هذه الدعوة ما يلخّص الهواجس السياسية والاجتماعية والأمنية والفنية والعَرضية أيضاً.

ولم تقتصر مساعي تبريد التوتر على تلك الدعوة، وأمثالها التي كررها عبر وسائل التواصل عددٌ من نجوم المسلسل وفريق عمله. لقد نشر عدد لا بأس به من هؤلاء تعليقات وصوراً من الكواليس، توحي إلى أن الأجواء هناك، بين النجوم والعاملين من سوريين ولبنانيين، هي عكس السجال. وأبرز تلك الصور والتعليقات هي ما يجمع خباز وكاريس. ففيما حرص الممثلان، وإدارة «النار بالنار»، على استمرار عرض المسلسل وإبقاء أحداث الحلقات المقبلة قيد الكتمان حتّى عرضها، تم اللجوء إلى نشر صور تُظهر حُسن العلاقة بينهما. ما ولّد موجة من الأخبار والشائعات، على طريقة المتابعات الشعبية للنجوم والأعمال الفنية، تشير إلى علاقة غرامية تجمع خباز وكاريس، من دون توضيح إذا ما كان ذلك في المسلسل أم في الواقع. وقد دُعم ذلك بتسجيلات قصيرة، غالباً هي من مقابلات عن «النار بالنار»، يتحدّث فيها خباز وكاريس عن علاقتهما الإيجابية وسعادتهما بالعمل معاً وآثار ذلك على العطاء الفني الأدائي لكلٍّ منهما. وفيما أشارت كاريس إلى تعلّمها من «الفنان القدير والمثقف» (خباز)، روى هو كيف يستمتع بمراقبتها أثناء التصوير وهي «الممثلة الشغوفة والمتمكِّنة من دورها وشخصيّتها».

المواجهة والعناصر الدرامية


ولعلّ هذه «الحركة» كانت الأقوى في عمليّة تبريد التوتر، التي تحوّلت إلى عملية ترويج للمسلسل ونجميه. وهي قويّة إذ التقت فيها اندفاعة نجوم المسلسل للدفاع عنه ولعدم حرفه عن سكّته الدرامية مع رغبة شعبية قوية بالتركيز على الدراما والممثلين والجماليات المتعددة في المسلسل الواقعي الجريء، الذي لفت الانتباه إليه حتى قبل انفجار السجال. وقد دعم ذلك اجتماع العناصر الدرامية في خباز وكاريس. فإضافة إلى كونهما رجلاً لبنانياً عازباً وامرأة سورية توفى زوجها، هما من تساجلا في الحلقة الخامسة وفجّرا السجال. فعزيز (خباز) هو من ضاق بالسوريين وهم يملأون الحارة ويديرون أعمالهم وتزداد أموالهم، فيما يتضاءل عدد «السكان الأصليين» الذين يعانون من شح المال الضروري لهم. وقد رفع بعد صدام مع المرابي المستبد في الحارة، وهو لبناني الجنسية من أصل سوري (عابد فهد بدور عمران)، لافتة كتب فيها «ممنوع تجول السوريون بعد الساعة الثامنة مساءً». أما مريم (كاريس) فهي التي امتعضت من اللافتة وسألت عن «الحمار» الذي رفعها.

فرد خباز عليها: «إنتو جايين هيك وقحين ما عندكم جنس الحيا؟ إلك عين تحكي إنت؟ ماضيكم معنا بشع وحاضركم ع أبشع. أنا محلك بحط راسي بالأرض، ما إلي عين حط إجري عليها».

وبعدما تهدّئ مريم فتى سورياً (تيم عزيز بدور بارود) عن العراك مع عزيز، تتوجه إلى الأخير بالقول: «مو نحنا جينا بكيفنا، إنتو إللي بعتو ورانا. وثاني شي: لولانا كنتو هبّرتوا بعض!».

فأجابها عزيز: «نحن بعتنا وراكن على أساس قوات ردع عربية صار بدو مين يردعكن، قعدتو عنا 30 سنة عم تردعوا مدري مين ومدري شو. وبعدين لما خلصت الحرب بقيتوا على قلوبنا مثل الكابوس. شو بتعرفي عن المدفون، عن ضهر البيدر؟ بتعرفي شي عن عنجر؟ إنت شي مرّة قاعدة ع ربطة الخبز حتى ما يقشّطك اياها أبو سن ذهب عالحاجز؟ كنّا إذا أخذنا نَفس يشلّحونا نصّو. إلك عين تحكي كمان؟».

مريم: «ما بدها كل هالموشّحات، إحمل حالك ونزال عالشام وورجينا المراجل، وشوف مع مين إلك تار!».

عزيز: «ما بدي إنزل عالشام. روحي إنت عالشام. خدي كل كلاكيشك معك بركي بيلحقوكي كل هالشعب الرتش اللي هون!».

وقبل أن ينتهي المشهد وينسحب عزيز، تسخر مريم منه: «يا ردع!»، وتشير إلى الخطأ النحوي في عبارة اللافتة: «تُكتب السوريين وليس السوريون، يا مثقف يا فينيقي!».

وينتهي المشهد بسخرية عزيز، ابن «الأم الحنون» بالتبنّي: «ع أساس لو كتبتها بالفرنسي كنتوا فهمتوها!».



استشعر فريق "النار بالنار" مخاطر الانزلاق الى ردة الفعل العنصرية



مناظرة وعجز


ويُحسب لهذا المشهد أنه تحوّل إلى مناظرة بين متساويين، وقد وفّر فرصة متوازنة نوعاً ما لكلا الطرفين، اللبناني والسوري. وقال كلٌّ منهما بحجم ما قاله الآخر، مع منح الجانب السوري فرصة للدفاع عن نفسه. أمّا المضمون فيضع الخطابين الشعبيين لا الرسميين، اللبناني والسوري، أمام عجزهما. وينتسب ذلك كلّه إلى ذكاء السيناريو والحوار اللذين صاغهما رامي كوسا بميزان الجوهرجي. ففي حين يظهر «الخطاب اللبناني» محقّاً، لا سيما لناحية الذاكرة المتألّمة ولناحية العجز الراهن أمام تفوّق «السوريين» الناتج من الأزمة الاقتصادية والفساد اللذين يجعلان المرابي، مثلاً، مافيويّاً نافداً، يُظهره أيضاً على أنه «فشّة خلق» وتحدٍّ للسوريين اللاجئين. وفي خلفيّة هذا الخطاب العاجز يكمن تواطؤ السياسيين اللبنانيين لإقفال ملف المخطوفين في سوريا. وها هو أحدهم، نائب في البرلمان اللبناني، ينصح ابن المخطوف (عزيز) بعدم فتح «عش الدبابير». أما «الخطاب السوري»، فعلى رغم أنه يمنح الشعب امتياز التنصّل من أفعال السلطة، إلا أنه يظهره كتبرؤ فقط لا غير. وفي خلفية خطاب الدفاع عن النفس هذا تسلّحٌ بالإحساس بالتفوّق العروبي المتمثّل بحفظ «اللغة القومية» في مقابل جهل «الفينيقيين» بها، وقد استبدلوها باللغة الفرنسية.

ومن مظاهر العجز التي يقدّمها المسلسل، أن الخطابين لا يقدّمان ولا يؤخّران ولا يتجاوزان كونهما كلاماً وتوتيراً للأجواء بين طرفين ضحيتين لا يواجهان المسؤول عن مآسيهما. وفي الحالين، تبقى الأحوال في دمشق وبيروت هي هي.

وأكثر من ذلك، وأمام العجز المزدوج، يضع «النار بالنار» الخطابين على مشرحتي البلدين. والنتيجة هي أن «الخطاب السوري» هو لفئة تتنصل من السلطة وأفعالها وتبرّئ نفسها، وكذلك «الخطاب اللبناني» هو لفئة تضررت من سوريا أثناء تدخّلها ووجود جيشها في لبنان. وفي الحالين، هما ليسا خطابين يشملان الشعبين بكاملهما. وهذا الممثل طارق تميم، اليساري المحبط والمكسور، وهو يمكن أن يكون لبنانياً أو سوريّاً، ينتقد تصعيد خباز ويدعوه إلى أن لا يعمم معركته الخاصّة على اللبنانيين والسوريين. وهكذا ينزع المسلسل من العنصرية ادعاءها بالتكلم تارة باسم الشعب اللبناني وطوراً باسم الشعب السوري.



عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز



جماليات الأداء

كاد تسليط الضوء على البطلين اللذين خاضا تلك المواجهة، جورج خباز وكاريس بشار، أن يحجب الممثلين الآخرين، لو أن هؤلاء ليسوا أقوياء وقدّموا أداءً فنيّاً عالياً. وفي مقدّمهم عابد فهد، طارق تميم، جمال العلي، زينة مكي وطوني عيسى. وهذا يُحسب للممثلين القديرين وللنص الواقعي المحبوك والشفّاف، وكذلك لإخراج هذا العمل الذي يُعد تجربة ناجحة في الأعمال المشتركة العربية. ولا شك في أن هذا العمل الذي حمل توقيع المخرج محمد عبد العزيز فرصة مفيدة للدراما والممثلين اللبنانيين الذين باتوا بحاجة إلى نقد وتجديد.

فهذا فهد يقدّم بإتقان دوراً مركّباً من شخص سوري تلبنن عبر السلطة والفساد، في بيروت ودمشق، ومن شخص «مسرحي» يُذكّر بـ»تاجر البندقية» لشكسبير (لعل لهذا دلالات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أسماء الشخصيات في المسلسل).

وفي مقابل إتقان فهد، هناك «عفوية» تميم، الذي يظهر في المسلسل وكأنه على طبيعته ولا يمثّل. ولهذا جماليّته المشغولة باحتراف الكاتب والمخرج على حد سواء ومعهما تميم.

ولا يقل حضور جمال العلي عن حضور فهد وتميم، على رغم أن حجم دوره أصغر من حجميهما. فهو يقدّم شخصيّة شبه هامشية إلا أنه يرفعها ببراعته واحترافه.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى مكي وعيسى، اللذين يثبتان موهبة وقدرة على خوض الامتحان الصعب في المدرسة السورية التي تولي أهميّة للممثل وإثباته طاقاته الإبداعية أمام الكاميرا.

ولا يمكن في هذا السياق نسيان الشاب تيم عزيز الذي يؤدي ببراعة دور «الشبيح» و»الفسّاد» الذي يعمل لمصلحة المرابي.

ولعل قوّة ممثلي «النار بالنار»، وكذلك السيناريو والحوار والإخراج، هي ما حصّنه وأبقاه في إطاره الدرامي التلفزيوني، وجنّبه الدراما السياسية، حتى الساعة.


MISS 3