155 جينة جديدة وصغيرة تتطوّر لدى البشر

02 : 00

فيما يتابع التقدّم الحاصل في الطب والتكنولوجيا تسهيل حياتنا ويجعلها آمنة ومريحة أكثر من أي وقت مضى في التاريخ البشري، قد يفترض الكثيرون أن تطور البشر وصل إلى نهايته. لكنّ الواقع مختلف بالكامل.



في الطبيعة، تظهر الطاقة التي تحرّك مسار التطور على شكل اختلالات مفاجئة في المعلومات الجينية التي تَرِثها الأجيال الجديدة. وفي الجنس البشري، ينقل الأهل معلوماتهم الوراثية إلى أولادهم داخل 23 زوجاً من الكروموسومات، لكن لا تكون هذه العملية مثالية مطلقاً.

عند نقل الجينات، قد يتغير حمضها النووي بطريقة عشوائية نتيجة الحذف العرضي، أو النسخ المتكرر، أو الإضافات، أو التحولات. تنتج هذه العملية جينات جديدة أحياناً، وهي تحتوي على معلومات مختلفة بالكامل وغير موروثة من أيّ من الأبوَين.

في معظم الحالات، لا تُسبب هذه الأخطاء أي تغيرات قابلة للرصد في خصائص الأجناس، لكنّ التغيرات المحتملة قد تكون ضارة، فتضمن تفوّقاً واضحاً في بعض الأحيان وتُمكّن الأفراد من البقاء على قيد الحياة والتكاثر بلا مشكلة. وإذا كانت تلك السلاسل الجديدة كافية، قد تتكاثر في نهاية المطاف وتصبح النسخة الأكثر شيوعاً من الجينة.

هذه العملية تحمل الأهمية نفسها لدى البشر وأي فصيلة أخرى في الطبيعة. لكن بما أن الجنس البشري يُعتبر وافداً جديداً في المجال التطوري، لا يزال تحديد نطاق تأثيرها وطريقة عملها اليوم هدفاً صعباً.

التحدي الأصعب

يظن فريق من الباحثين في اليونان وأيرلندا، بقيادة نيكولاوس فاكيرليس من "مركز أبحاث ألكسندر فليمنغ للعلوم الطبية الحيوية" في أثينا، أن عاملاً أساسياً لفهم التطور البشري يكمن في سلاسل الحمض النووي القصيرة التي تُسمّى "قوالب القراءة المفتوحة". تكون هذه الهياكل عبارة عن أجزاء صغيرة من الجينوم الذي يشفّر جزيئات البروتين الضئيلة، أو البروتينات الدقيقة التي تستطيع القيام بمجموعة متنوعة من المهام البيولوجية الأساسية، بدءاً من تنظيم الأداء العضلي وصولاً إلى تنبيه الخلايا حول الضغوط الضارة.

لكن تصعب دراسة قوالب القراءة المفتوحة نظراً إلى أحجامها الضئيلة. لهذا السبب، امتنعت أبرز أبحاث الجينوم عن تحليل كامل أهميتها حتى الفترة الأخيرة، وهي تُعتبر حتى اليوم جينات متكاملة بحد ذاتها. لكن برأي فريق فاكيرليس، يخفي هذا الإغفال المحتمل إمكانية أن تطوّر البروتينات الدقيقة التي تشفّرها قوالب القراءة المفتوحة سلاسلها الجديدة الخاصة على مر الأجيال، وهي سلاسل قد تتحول إلى جينات جديدة في نهاية المطاف.

نحو استكشاف السلاسل الجديدة

طوّر فريق فاكيرليس في الدراسة الجديدة تقنية تحليلية متقدمة سمحت للباحثين بمراجعة البيانات المنشورة حديثاً عن البروتينات الدقيقة البشرية. كان العلماء يأملون في رصد وتقييم حالات تتطور فيها البروتينات الدقيقة عبر قوالب القراءة المفتوحة وتتحول إلى سلاسل جديدة لم يسبق أن شفّرت المعلومات الوراثية يوماً.

في المحصّلة، رصد الباحثون حوالى 155 بروتيناً دقيقاً جديداً في مجموعة البيانات. وبعد رصد تلك الجزيئات، أرادوا في المرحلة اللاحقة أن يحددوا توقيت ظهورها للمرة الأولى على مر تاريخ التطور البشري، وافترضوا أن الآليات البيوكيميائية ترتبط بها.

من بين هذه البروتينات الدقيقة الجديدة، تبيّن أن بروتينَين كانا حكراً على البشر ولم يظهرا إلا بعد انفصال أسلافنا عن قرود الشمبانزي، منذ فترة تتراوح بين 5 و7 ملايين سنة. برزت أيضاً بروتينات دقيقة مهمة أخرى على صلة ببعض الطفرات الجينية المعروفة بقدرتها على التسبّب بأمراض لدى البشر.

بروتينات دقيقة جديدة

أثبت فاكيرليس وزملاؤه أيضاً أن الوسائل التحليلية التقليدية ما كانت لترصد جزءاً كبيراً من البروتينات الدقيقة التي اكتشفوها. يعني ذلك أن مقارباتهم لم تصبح شاملة بعد، وربما تنتظر مجموعة أخرى من البروتينات الدقيقة الجديدة من يكتشفها.

في هذه الحالة، قد تكون تلك الجزيئات في أولى مراحل تحوّلها إلى جينات متكاملة يمكن تشفيرها يوماً في جينوم البشر، وقد تسمح بتحديد مستقبل تطور الجنس البشري ككل. ينوي الباحثون في فريق فاكيرليس رصد هذه السلاسل المراوِغة في بحثهم المقبل عبر تحسين تقنياتهم ودراسة مجموعات أكبر حجماً من البيانات المرتبطة بالبروتينات الدقيقة البشرية.

التطور مستمر

من خلال زيادة التركيز على أهمية قوالب القراءة المفتوحة وبروتيناتها الدقيقة الجديدة والمشفّرة، يأمل العلماء في أن تصبح الأبحاث المتعلقة بهذه الهياكل البارزة أكثر شيوعاً في أهم أوساط علم الجينوم.

بشكل عام، تعكس استنتاجات هذا الفريق صورة مقنعة عن طبيعة التطور البشري: بدل أن تتباطأ التغيرات الحاصلة في رمزنا الجيني منذ ظهور الجنس البشري للمرة الأولى، يبدو أنها تتابع مواكبة بقية عناصر الطبيعة.

قد نحصل على أدلة جديدة عن وجهة هذا التطور البشري مستقبلاً عبر رصد هذه الجزيئات ودراسة تفاصيلها، لكن قد تُمهّد هذه الجهود أيضاً لظهور اكتشافات طبية جديدة على المدى القصير. من خلال تحديد ما تفعله الطفرات الجديدة المرتبطة بقوالب القراءة المفتوحة لتعطيل الكيمياء الحيوية في الجسم، قد يتمكن الباحثون قريباً من تطوير طرق جديدة لتشخيص أمراض وراثية خطيرة ومعالجتها.


MISS 3