يونس بوسينا

الإنسان... مسالمٌ أم عدائي؟

المصدر: test sgdfkahsdjha adh

قرود الشمبانزي لا تملك طائرات مسيّرة، لكنها تخوض الحروب رغم كل شيء. شهدت أوغندا، بين العامين 1999 و2008، حوالى 20 اعتداءً قاتلاً لم تذكرها أي كتب تاريخ. لم تكن الميليشيات أو الجيوش النظامية مسؤولة عن تلك الاعتداءات، بل ينتمي منفّذوها إلى جماعة مؤلفة من 150 قرد شمبانزي. يمكن رصد رابط سببي بين الاعتداءات القاتلة وتوسّع الأراضي بعدما بدأت قرود الشمبانزي في غابة «نغوغو» تستعمل المنطقة التي كان يحتلّها جزء من ضحاياها سابقاً. نجحت هذه الجماعة من القرود في توسيع أراضيها بنسبة 22 في المئة، ما يؤكد فرضية سابقة طرحتها عالِمة الرئيسيات الشهيرة جين غودال: تخوض قرود الشمبانزي المعارك لاكتساب الأراضي. لكن هل يمكن استعمال العدوان المتبادل بين تلك القرود لفهم أصل الحروب وأسبابها؟



يتوخى العلماء الحذر عند التطرّق إلى هذا السؤال، ما يؤكد حساسية النقاش المرتبط بأساس البشرية: هل يميل الجنس البشري إلى العنف بطبيعته لدرجة أن تصبح الحرب جزءاً من مواصفات الإنسان؟ يظهر هذا السؤال في مختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية، بدءاً من علم الأخلاق والآثار وصولاً إلى علم الإنسان، لكنه يشير دوماً إلى الوجهة نفسها. يُعبّر معسكران أساسيان («السلميون» و»العدائيون») عن نموذجَين فلسفيَين رئيسيَين: نموذج الطبيعة البشرية القائمة على حرب الجميع ضد الجميع بقيادة الفيلسوف توماس هوبز، ونموذج الإنسان البدائي الصالح بقيادة الفيلسوف جان جاك روسو.

يمثّل معسكر السلميين تيار روسو الذي يعتبر الإنسان كائناً سلمياً بطبيعته، ما يعني أن الحرب لم تظهر إلا في مرحلة متأخّرة من تاريخ البشرية. في المقابل، يعتبر معسكر العدائيين الإنسان عدائياً بطبيعته لكن عادت مظاهر الحضارة وروّضته مع مرور الوقت. هذا الجدل يعكس الصراع الأبدي بين الطبيعة والثقافة وبين العناصر البيولوجية والاجتماعية. يُعبّر هذان المعسكران إذاً عن وجهتَي نظر متناقضتَين عن البشرية.

منطقياً، تغيّرت أشكال العنف على مرّ الزمن. بدءاً من أكل لحوم البشر وصولاً إلى العنف الرمزي، يبدو المشهد العام واسعاً ومعقّداً لدرجة أن يتوقّف كل نقاش على تعريف هذا المفهوم.

قد تبدو الحرب فكرة بسيطة ظاهرياً، لكنها تخفي شكلاً من الغموض على المستوى الدلالي. يعتبرها البعض حالة صدامية بين فئتَين مختلفتَين من الجماعات التي تتبادل العداء وتقيم روابط اجتماعية عدائية، فتحاول كل جماعة منها التفوّق على الآخرين عن طريق الصراع المسلّح. لكن تتعدّد الأسئلة الكامنة وراء هذا التعريف: هل كانت أقوى أشكال العنف، مثل الحروب، موجودة دوماً أم أنها لم تصبح ممكنة إلا بعد مرحلة معيّنة من التطوّر البشري؟ هذا السؤال يقسم آراء معسكرَي السلميين والعدائيين مجدداً: يعتبر العدائيون النزعة إلى العنف صفة أنثروبولوجية دائمة، بينما يرفض السلميون تطبيق مفهوم الحرب على المجتمعات المصغّرة من الصيادين وجامعي الثمار في العصر الحجري القديم.

استناداً إلى الأدلة الأثرية، لا يمكن وضع الصراعات القديمة في خانة الحروب، لكن، ثمة رابط واضح بين العصر الحجري الحديث وأعمال العنف: تُعتبر زيادة الكثافة السكانية، والاضطرابات المتعلّقة ببعض الموارد، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وظهور اللامساواة والأملاك، على صلة بتصاعد أعمال العنف الجماعية.

على صعيد آخر، ثمة رابط محوري بين الدولة والعنف. في هذا السياق، يقول عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر: «الدولة هي المؤسسة التي تملك حق احتكار العنف المشروع وسط جماعة معيّنة». ينطبق هذا المبدأ على الدولة المعاصرة بالذات، فهي ترتكز على مفهوم السيادة المطلقة التي تُفرَض على شعب محدّد داخل أرض معيّنة، ويربط معظم واضعي النظريات بين هذا المفهوم والعنف.

نحو تشريع الصراعات

يشتق الهوس بالسلام في المقام الأول من حدث تاريخي معيّن قد يكون جزءاً من أعراض صدمة تاريخية استثنائية تنجم بالنسبة إلى جميع البشر المعاصرين عن ضخامة الحروب القديمة ومدّتها. بين القرنَين السادس عشر والسابع عشر، شهدت أوروبا مثلاً حدثَين جعلا الحرب احتمالاً يومياً في حياة البشر. أصبحت تلك الصراعات أكثر دموية بسبب تضخيم نطاقها والابتكارات التقنية المتلاحقة، لكن ظهر في الوقت نفسه شكل جديد من الصراعات: الحرب الأهلية الإيديولوجية التي كانت في الأصل نوعاً من الحروب الدينية.

حلّل المؤرخ جان دولومو هذا المناخ الجديد في دراسته الشهيرة «الخوف في الغرب» التي راجعت مرحلة طويلة تمتدّ بين حقبة الطاعون الكبير في العام 1350 والقرن الثامن عشر. برأيه، تراكمت الاعتداءات خلال تلك الفترة، فنشأ اضطراب نفسي عميق في الحضارة الأوروبّية. هكذا انتشر شعور الخوف على نطاق واسع. تُعتبر هذه الخلفية التاريخية بالغة الأهمية لأن الهوس بالحرب الأهلية هو الذي عزّز النظرية الأنثروبولوجية المرتبطة بالليبرالية التي تقوم على مفهوم الهمجية البشرية الفطرية وتعتبر نفسها «إمبراطورية أقل الشرور الممكنة»، فلا تتحمّل مظاهر التعصب بل تجتاحها رغبة فائقة في عيش حياة هادئة وسلمية أخيراً.

ترتكز الدولة الليبرالية المعاصرة على وعد غير معلن: إنشاء المجتمعات على أساس السلام. هذه الفكرة تُميّزها من الإمبراطوريات الغازية الكبرى في الماضي. تراجعت أعمال العنف بشكلٍ ملحوظ للمرة الأولى في أوروبا الغربية بعد نهاية الحروب الدينية الأوروبّية. تستطيع الثقافة إذاً أن تكبح العنف القاتل والمتوارث بين البشر.

لكن يظنّ آخرون أن هذا المفهوم يبقى غامضاً. ألا تتعارض الحروب العالمية، والإبادات الجماعية، والقنابل الذرية خلال القرن العشرين مع هذه الرؤية التفاؤلية؟ يعتبر الفيلسوف الفرنسي جورج باطاي الحرب «طريقة كارثية لتصريف فائض الطاقة» التي تنتجها المجتمعات البشرية، وهو فائض أوصلته الرأسمالية إلى مستويات غير مسبوقة.

تدعم العلوم الاجتماعية النقدية في آخر نصف قرن هذه الفكرة، فهي تنسف النظرية المرتبطة بالحداثة الليبرالية السلمية: لم تنجح هذه النزعة الحديثة في القضاء على العنف، بل إنها غيّرت مكانه وجعلته غير مرئي بكل بساطة. يظنّ الفيلسوف ميشال فوكو أن السلطة السياسية تُفرَض من الآن فصاعداً على الأجسام الحيّة. أثبت فوكو أن السلطة المعاصرة حوّلت العنف إلى شكل من الانضباط. تتّضح هذه التقنية الجديدة في الحُكم عبر مؤسسات تأديبية مثل السجون، والمنفى، والثكنات العسكرية، والمدارس، والمصانع.

لا ينحصر هذا العنف الأصمّ، الذي لا يكون قاتلاً بشكلٍ مباشر، في إطار الدولة بل يمتدّ أيضاً إلى الرأسمالية الحديثة. أدّت هيمنة هذا المفهوم إلى إرساء السلام في المجتمعات لغايات إنتاجية، مروراً بتشريع الصراعات في حالات كثيرة. يظنّ الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ شول هان أن العنف الدموي قبل العصر الحديث انتقل من المرئي إلى غير المرئي، ومن المباشر إلى الضمني، ومن الجسدي إلى النفسي، ومن العسكري إلى المدني. هكذا تحوّلت سلبيات الماضي إلى «عنف إيجابي» خبيث لأنها تطرح نفسها تحت مسمّى الحرّية وعصر الأداء الفائق. تتعدّد أعراض هذه الظاهرة، أبرزها الإجهاد التام، والاكتئاب، وأمراض نفسية أخرى تنجم عن رأسمالية رقمية ينتشر فيها العنف داخل كل فرد.

ربما اتخذ العنف منحىً معقداً ومختلفاً مع مرور الوقت، لكن ترصد الفيلسوفة الفرنسية إيلسا دورلان واقعاً مختلفاً طوّرته البشرية العالمية عن الدول الليبرالية المعاصرة، تزامناً مع نشوء مفاهيم الغزو الاستعماري والاستعباد. تُحلل دورلان أساليب الحفاظ على النظام في أماكن واقعة ما وراء البحار وفي ضواحي المدن أيضاً، باعتبارها امتداداً لنظام هرمي يُعرّض جزءاً من الناس لخطر الموت بهدف تحسين ظروف حياة أشخاص آخرين.

أثـــــر عـــــكـــــســــــي لـــــلــــــتـــــطــــــوّر

في بحثٍ بعنوان «ما قيمة الحياة»، يشكك عالِم السياسة ماتياس ديلوري من «المركز الوطني للبحث العلمي» في برلين بنظرية العنف الليبرالي التي تطرح مفارقة كبرى عن صراعات القرن الواحد والعشرين، أي عدم اهتمام الآراء الغربية بمقتل المدنيين خلال الحروب على الإرهاب. يرصد ديلوري تناقضاً جوهرياً في الليبرالية السياسية التي تحدّ عنف المجتمع من جانب الدولة لكنها قد تعتمد قواعدها الخاصة لتشريع العنف. يوضح ديلوري: «تشكّل الحرب الراهنة في غزة أقوى مثال على ذلك. تستعمل إسرائيل العنف الذي تعتبره متماشياً مع حقها في خوض الحرب، لكنها تتعامل مع سقوط قتلى مدنيين بأعداد لا تتماشى مع عنف «حماس» الذي يُفترض أن تردعه هذه العمليات».

يفسّر ديلوري هذا الاختلاف المثير للفضول قائلاً: «يدافع محاربو الإرهاب من أوروبا وأميركا الشمالية عن مجتمع خيالي وعابر للأوطان، بمن في ذلك الأشخاص الذين يعيشون بأسلوب يتماشى مع القواعد الليبرالية للحياة الصالحة، لكنهم يستثنون بالطريقة نفسها جميع الأطراف الأخرى».

تربط العلوم الاجتماعية النقدية الوعد بإرساء السلام من جانب الدول الليبرالية المعاصرة بمواقفها المنافقة وجرائمها. يظنّ منتقدوها أن العظمة التي تُميّزها عن الأنظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية تجعلها تتّخذ هذا المسار. تتحقّق مكاسب حقيقية في خضم هذه المسيرة، منها إلغاء عقوبة الإعدام أو مفهوم العبودية. لا تُعتبر الدول اليوم عنيفة جدّاً وفق مقياس العنف القاتل. في أوروبا الغربية، تراجعت جرائم القتل بمئة مرّة مثلاً بين القرنَين الرابع عشر والعشرين.

في كتــــــــــــــــاب La Pensée hiérarchique et l'évolution (الفكر الهرمي والتطور) الذي صدر في العام 1983، يحاول الفيلسوف باتريك تور اقتراح ردّ على هذا المسار الذي يفصل على ما يبدو البشرية المعاصرة عن أصلها الحقيقي: يُفترض أن تهدف عملية الانتقاء الطبيعي إلى التخلص من الأشخاص الأقل براعة، لكن كيف يمكن تفسير نزعة المجتمعات إلى ابتكار قواعد أخلاقية للحفاظ على الحياة؟ يشرح تور هذه المفارقة عبر تفسير المنطق الكامن وراء تلك النزعة باعتباره نهجاً غير متوقّع لتطبيق مبادئ تشارلز داروين. تُسمّى هذه الآلية «الأثر العكسي للتطور»، وكانت لتعكس على الأرجح قانون الانتقاء الطبيعي على مستوى تطوير المجتمعات، ما يؤدي إلى تفضيل سلوكيات التعاطف مع الآخرين، مثل مساعدة المرضى. بعبارة أخرى، سيصمد الجنس البشري عبر حماية الأفراد الأكثر ضعفاً بدل السعي إلى التخلّص منهم. نتيجةً لذلك، لا تُعتبر الحرب بحد ذاتها أو مفهوم الأمان الاجتماعي خللاً بيولوجياً.