جوزيف حبيب

إشتعال "الحديقة الخلفيّة" لمصر يُهدّد أمنها القومي

20 نيسان 2023

02 : 01

صورة جوّية تُظهر حجم الضرر في مطار مروي (ماكسار)

لم يكن إنطلاق شرارة المعارك العنيفة صباح يوم السبت في 15 نيسان الحالي بين الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقوّات الدعم السريع بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو الملقّب بـ»حميدتي»، في العاصمة الخرطوم ومدن ومواقع استراتيجيّة عدّة في البلاد، النبأ الذي تتمنّى القاهرة تلقّيه عن آخر تطوّرات أحوال جارتها الجنوبيّة، ولو أن التقييمات الاستخباراتيّة المصريّة كانت تصبّ في خانة أنّ الحرب باتت قاب قوسين من الاندلاع وسط تأزّم عميق في المشهد السياسي الداخلي وفشل مسار «التحوّل الديموقراطي».

فبينما كانت القاهرة تترقّب بفارغ الصبر استكمال مسار الحلّ السياسي للأزمة في ليبيا، التي تمتدّ على طول الحدود الغربيّة الشاسعة لمصر، تفجّرت الأوضاع الميدانيّة في السودان، الذي يمتدّ بدوره على طول الحدود الجنوبيّة الطويلة لـ»بلاد الفراعنة». وبالتالي، عادت مصر لتُجاور «بؤرة ساخنة» جديدة تُشكّل تهديداً لأمنها القومي، خصوصاً في حال طال أمد النزاع فيها، بعدما كانت قد عالجت الوضع الأمني المضطرب على أراضيها الشماليّة الشرقيّة في سيناء، وتتوقّع فجراً جديداً لجارتها الغربيّة ليبيا، حيث تلوح في الأفق فرصة تاريخيّة لإنهاء معضلتها الداخليّة.

لمصر مصلحة استراتيجيّة في وقف المعارك الضارية في السودان سريعاً والتوصّل إلى حلّ سياسي للأزمة يُبعد شبح حرب استنزاف طويلة الأمد، والتي قد تتحوّل إلى حرب أهليّة تُمزّق أوصال الدولة السودانيّة المأزومة أصلاً. فأكبر كابوس أمني للقاهرة يكمن في تحوّل الأرض السودانيّة إلى ساحة حرب مفتوحة تجذب مقاتلين مرتزقة وإرهابيين من كلّ حدب وصوب، وتجعل حدودها الجنوبيّة غير آمنة وغير مضبوطة، فضلاً عن أن الحرب ستُضعف موقف «حليفتها الموضوعيّة» الخرطوم في ما يتعلّق بملف سد النهضة الإثيوبي الشائك مع أديس أبابا.

صحيح أن علاقات القاهرة هي بطبيعة الحال أقوى مع الجيش السوداني بقيادة البرهان، الذي تخرّج من الكلية الحربيّة المصريّة، منه مع قوّات الدعم السريع بقيادة «حميدتي»، إلّا أن مصر لا يهمّها تسعير الصراع بينهما لما سيحمله هذا الأمر من انعكاسات دراماتيكيّة خطرة على الأمن القومي المصري بشكل خاص وعلى أمن المنطقة واستقرارها بشكل عام. للجيش المصري علاقات متينة مع نظيره السوداني، حيث يُنظّم الجيشان تدريبات عسكريّة مشتركة بين الحين والآخر في مواجهة المخاطر الإقليميّة المتنامية والتحضير لها مسبقاً، إضافةً إلى تنسيقهما الاستخباراتي الدائم.

وهذا ما يُفسّر تواجد جنود مصريين داخل قاعدة مروي في شمال السودان، حيث أثار فيديو لـ»استسلامهم» لقوات الدعم السريع غضباً شعبيّاً عارماً في مصر، تفجّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في حين سارع «حميدتي» ليُعرب عن استعداد قوّاته للتعاون مع القاهرة لتسهيل عودة جنودها إلى ديارهم سالمين. وهؤلاء الجنود المصريون، الذين سلّمتهم قوات الدعم السريع إلى الصليب الأحمر الدولي اليوم، لم يكونوا في مروي لتنفيذ مهمّات قتاليّة بل لتنظيم تدريبات وتقديم المشورة للجيش السوداني، وبالتالي لا يُمكن اعتبارهم «أسرى حرب» في القانون الدولي.


تضع القيادة المصريّة اليوم كافة الاحتمالات أمامها على الطاولة لترسم السيناريوات اللازمة لمجابهة التحدّيات الجيوسياسيّة والجيوعسكريّة المقبلة على جبهتها الجنوبيّة. ففي حال تدهورت الأوضاع الميدانيّة وانزلق السودان إلى حرب أهليّة طاحنة، سيضع هذا الأمر مصر أمام مفترق طرق حاسم. فقد تدرس القاهرة احتمال تدخّلها العسكري ضمن غطاء عربي - أفريقي - دولي واسع تحت عنوان «قوّات ردع» للفصل بين المتحاربين. ولمصر، التي تحتلّ المرتبة الرابعة عشرة من بين أقوى جيوش العالم، بحسب تصنيفات موقع «غلوبال فاير باور» لعام 2023، القدرات واللوجستيّات العسكريّة التي تؤهّلها للعب مثل هذا الدور، إذا أرادت ذلك.

موازين القوى بين مصر والسودان تصبّ لصالح الأولى بفارق سحيق، ففي وقت تحتلّ فيه مصر المرتبة الرابعة عشرة عالميّاً كما سبق وذكرت، تحتلّ السودان في المقابل المرتبة الخامسة والسبعين، وفق التصنيف العسكري ذاته، علماً أن حجم الجيش المصري ومؤهّلاته وقدراته البرّية والجوّية والبحريّة وعتاده الحربي... يتفوّق بأشواط هائلة على إمكانيّات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مجتمعَين. لكن تبقى مصالح القاهرة الحيويّة وأمنها القومي البوصلة التي ستُحدّد وجهة خياراتها المستقبليّة ومدى حجم تدخّلها في السودان.

الموقف المصري العلني يتلخّص حاليّاً بأن الحرب في السودان هي صراع داخلي، فيما دوائر صناعة القرار في القاهرة على اتصال مباشر مع طرفَي النزاع. كما تتحرّك الديبلوماسيّة المصريّة بشكل دؤوب ومكثّف على أكثر من خطّ عربي وأفريقي ودولي من أجل وضع حدّ للإقتتال السوداني - السوداني والتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار والعمل على تسوية سياسيّة تحول دون انجرار البلاد نحو حرب داخليّة دامية لا أحد يستطيع التكهّن كيف تنتهي ومتى.

تُفضّل القاهرة لعب دور الوسيط السياسي في السودان عوض الاضطرار إلى الغوص في مستنقعاته القبليّة والإثنيّة القاتلة، فهل تنجح مصر في مساعيها لحقن دماء السودانيين، أم أن الصراع على النفوذ والسلطة هناك أقوى من صوت الديبلوماسيّة والسلام؟ وهل تُرغَم مصر على الانغماس في الوحول السودانيّة في حال احتدمت الحرب واشتدّت وطأتها وطال أمدها، أم تكتفي بـ»احتواء» الصراع و»ضبطه» و»دوزنته» من بعيد بما يحفظ أمنها القومي ويُبعد نيران «حديقتها الخلفيّة» من التمدّد عبر بوّابتها الجنوبيّة نحو عمق «بيتها الداخلي»؟


MISS 3